مرّت سبعة أيام كاملة منذ حفل تأبين شقيقي الأكبر، الكاتب الصحفي الراحل محمد الدسوقي، ولا تزال في القلب غُصَّة، وسؤال معلق بلا إجابة.
لم أتمنَ الكثير في تلك الأيام، فقط كنت أنتظر مكالمة هاتفية أو حتى رسالة نصية، بأي وسيلة من وسائل التواصل، من خالد البلشي، نقيب الصحفيين، يوضح فيها سبب غيابه عن حفل التأبين، كلمة بسيطة تشرح، تعتذر، توضح.. أو حتى تواسي.. لكن الصمت ظل سيد الموقف.
![]() |
الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي |
لم أكن أنتظر من النقيب خُطبة، أو كلمة تُلقى على منصة.. كل ما كنت أرجوه هو حضور إنساني، نظرة احترام، لحظة صامتة تُعيد الاعتبار لرجل عاش حياته في خدمة هذه المهنة، وأخلص للنقابة كما لو كانت بيته، لم يكن الأمر أكثر من واجب مهني وأخلاقي، لكن النقيب لم يأتِ، وظل مقعده خاليًا في قاعة ملأها الحزن، ووجوه أثقلها الفقد.
غياب «البلشي» لم يكن مجرد غياب فرد، بل كان غيابًا لمعنى، غيابًا لقيمة الوفاء، التي كنا نأمل أن تتجسَّد في لحظة وداع لرجل لم يكن مجرد كاتب صحفي، بل قامة مهنية، ومُعلّمًا لأجيالٍ لم يبخل عليهم بعلمه أو وقته.
![]() |
حفل تأبين الكاتب الصحفي الكبير محمد الدسوقي |
في مقر النقابة، كان يجلس «الدسوقي» بين تلاميذه من شباب الصحفيين لسنوات طويلة، يشرح لهم قواعد اللغة والصياغة، ويصقل مهاراتهم العملية، أدى الرجل هذا الدور باجتهاد نادر.. كان يتنقّل يوميًا بين جريدة الأهرام ومبنى النقابة، يحمل أوراقه، ويمنح من وقته وجهده لآلاف الصحفيين، ومع ذلك، لم يحضر النقيب، وكأن شيئًا لم يكن، أكان كثيرًا عليك أن تودّعه بكلمة؟، أما كان من الممكن أن تُرسل مَن ينوب عنك؟ ليُلقي كلمة قصيرة تُطمئن من حضر أن النقابة لا تنسى أبناءها، ولا تتجاهل مَن خدموها بصمت وشرف؟.
![]() |
خالد البلشي نقيب الصحفيين |
النقابة، يا سيدي، ليست إدارة أو أوراقًا، هي ذاكرة حيّة، وحاضنة قيم، وبيت رمزي قبل أن تكون مؤسسة، وحين يغيب نقيبها عن تأبين أحد أبنائها الكبار، يبعث برسالة قاسية، لا نريد أن نصدّق معناها، رسالة تقول إن الوفاء ربما لم يعد من أولوياتنا، وإن المهنة بدأت تفقد بوصلتها الأخلاقية.
كانت أمسية التأبين فرصة نادرة لتوحيد الصفوف حول قيمة الصحافة، وتكريم رجل لم يسعَ يومًا إلى الأضواء، بل إلى الحقيقة، لحظة كان يمكن للنقيب أن يضع فيها يده على كتف الأسرة، ويقول ببساطة: «لم ننسه.. ولن ننساه».. لكنه لم يكن هناك.
كان الحزن كبيرًا على رحيل شقيقي، لكنه ازداد ثقلاً حين غاب مَن يُفترض أن يُمثلنا جميعًا، فلم يكن النقيب مطالبًا بأكثر من أن يكون موجودًا.. أن يربّت على كتف أسرة فقدت أهم أعمدتها.. ففي لحظة كان يفترض أن تكون تجسيدًا لمعاني الوفاء والتقدير، غاب تاركًا وراءه علامات استفهام كثيرة لدى الوسط الصحفي وأصدقاء الراحل وأسرته.
المشكلة لا تكمن فقط في غياب شخص النقيب، بل في ما يعكسه هذا الغياب من تجاهل للدور الرمزي الذي تمثله النقابة في رعاية رموزها، أحياءً وأمواتًا، فالنقابة ليست مجرد كيان إداري يدير شؤون الأعضاء، بل هي حاضنة القيم المهنية، والدرع الواقي لذاكرة الصحافة، ومن المفترض أن يكون النقيب في مقدمة من يكرّمون رموزها عندما يرحلون.
في النهاية، لا أحد يملك أن يجبر النقيب على الحضور، ولكن المنصب نفسه يجبر صاحبه – أخلاقيًا ومهنيًا – على تمثيل الصحفيين في محافل الوفاء، خاصة حين يتعلق الأمر بصحفي أفنى عمره في خدمة المهنة والنقابة.. إن التغاضي عن هذه اللحظة كان خذلانًا للصورة التي نأمل أن تبقى حية عن علاقة النقابة بأبنائها.
نحن لا نشكك في النوايا، لكننا نعبِّر عن وجع بسيط: كيف تُنظم النقابة تأبينًا رمزيًا حقيقيًا لأحد أبنائها الكبار، والنقيب نفسه لا يكون حاضرًا؟ أكان من الصعب أن يُرسل مَن ينوب عنه؟ أن يكتب سطرًا يقرأه أحد الزملاء؟.
عزيزي النقيب، غيابك لم يكن عابرًا.. لقد ترك في القلب غُصَّة، وفي العيون سؤالًا لا يزال بلا إجابة: لماذا لم تأتِ؟
إرسال تعليق