تخيل نفسك الآن جالسًا داخل مسرح كبير مظلم، ترتفع الستارة بهدوء لتعلن بداية العرض، وجمهور يترقب في صمت.
على الخشبة، لا سحر حقيقيًا، بل خدع وأسرار.. وفي وسط المسرح، يقف روبرت أنجير الساحر المعروف بـ«دانتون العظيم» داخل آلة غريبة، مخيفة.. يلمح الجمهور لحظة دخوله، ثم يختفي فجأة ليظهر على الجانب الآخر من المسرح.. ويصفق الحضور بانبهار بالغ ودهشة.
أما صديقه القديم ألفريد بوردن، فيقف مذهولاً أمام ما يحدث.
لم تمضِ أيام حتى يُتهم بوردن بقتل أنجير، ويُزج به في السجن، ثم يُقاد إلى حبل المشنقة، وكل ذلك لم يكن إلا جزءا من انتقام أنجير المدبر بعناية.
يحكي فيلم الغموض The Prestige «الهيبة»، الذي أخرجه كريستوفر نولان ببراعة فريدة، قصة خصومة شديدة بين روبرت أنجير وألفريد بوردن، ساحرين شابين في لندن في أواخر القرن التاسع عشر، ليكشف الجانب المظلم في النفس البشرية حين يتحوّل التنافس إلى هوس، والعداء إلى لعنة.
كانا صديقين، يتشاركان شغف الخدع المسرحية، ويتقاسمان دهشة الجمهور، حتى جاءت ليلة غيّرت كل شيء.. في أحد العروض، يُنفذان خدعة الهروب من الماء، تدخل زوجة أنجير إلى صندوق زجاجي مملوء بالماء، بعد أن يقيدها بوردن بالحبال، يُغطى الصندوق بستارة، ثم يُغلق بإحكام، وتبدأ الخدعة.. من المفترض أن تخرج زوجة أنجير من فتحة سرية بعد فك قيودها، لتظهر بين الجمهور، بينما يبدو الصندوق فارغًا.. لكن في تلك الليلة، لم تخرج، وماتت غارقة.
يصرخ أنجير وسط ذهوله، وهو ينظر إلى بوردن متسائلًا: بأي طريقة قيدتها؟
ومنذ تلك اللحظة، يشتعل فتيل الانتقام في قلب أنجير، صار يبحث في أسرار بوردن، لا ليقلده أو يتفوق عليه، وإنما ليدمره.. لم يتردد أنجير في المغامرة بكل شيء في سبيل انتقامه، حتى بما يبدو مستحيلاً، يسافر، ينفق كل ثروته، يخاطر بكل شيء، ويتوجه إلى المخترع الغامض نيكولا تسلا، المختص بصناعة آلة سحرية غريبة تنسخ من يدخلها لحظياً، حتى إذا كان إنساناً!، ليبدأ عرض أنجير الجديد: الخدعة المثالية.
في كل ليلة، يدخل أنجير الآلة أمام الجمهور، يختفي فجأة، ليظهر في الطرف الآخر من المسرح بنفس اللحظة.. الجمهور يصفق بلا توقف، دون أن يعرف أن نسخته الأصلية تسقط من أسفل الآلة في صندوق زجاجي مغمور بالماء مغلق بإحكام، لتغرق وتموت، باردة.. ووحيدة، وتظهر النسخة الجديدة المستنسخة منه على الجانب الآخر من المسرح لتكمل العرض.
في المقابل، كان سر بوردن مختلفاً تماماً، إذ لم يكن رجلاً واحداً، بل كان توأمين يشتركان في حياة واحدة، يتبادلان الأدوار في الخدعة السحرية وبكل شيء، العمل، الحب، وحتى الألم.. أحدهما يعيش، والآخر يختفي، أحدهما يضحك، والآخر يبكي، أحدهما يقطع إصبعه ليتطابق مع إصابة أخيه القديمة، والآخر يفقد زوجته لأنها لم تعرف الحقيقة الكاملة.
لم تكن خدعة بوردن قائمة على السحر أو الخيال، بل على إنسانية بامتياز، مبنية على شراكة، وتضحية، وصمت، ومع ذلك، لم ير أنجير في خدعته سوى سحر خارق يجب فضحه، لا إنسانية ممزقة تستحق الفهم أو الاحترام، دفعه هوس خفي بمعرفة كل ما يخص خصمه، لا طمعا في الفهم، بل رغبة في الانتصار عليه والانتقام منه.
في النهاية، ينهار كل شيء، يُسجن بوردن ويُشنق.. أما أنجير، فيمتلك المسرح، والتصفيق، والمجد، لكنه يحمل في طياته جثث نسخ ميتة من نفسه، واحدة في كل ليلة، حتى تأتي الليلة الأخيرة، بوردن الشقيق التوأم يعود ويطلق الرصاص على أنجير.. وينتهي العرض الأخير.. بلا تصفيق أو انتصارات، فقط أطياف لرجلين خسرا كل شيء.
أستحضر دروس فيلم The Prestige وقسوته النفسية وتأثيره العميق في تأمل طبيعة الانتقام كلما انتابني فضول لمعرفة أسرار الآخرين.. فالفيلم ليس مجرد قصة عن تنافس ساحرين، بل يعكس الوجه المظلم للإنسان حين يطارد عدوه بلا رحمة، معتقدا أن الانتقام قوة، بينما هو في الحقيقة لعنة، وعندما ينظر في أعماق خصمه، فيجد نفسه نسخة مشوهة، غارقة في الماء.
قبل سنوات، شاهدت الفيلم لأول مرة، وأدركت قيمة رسالته البليغة: «حين تُحل بعض الألغاز، تسرق منا القدرة على النوم، وحين تُطارد بعض الذكريات، لا تترك خلفها إلا فراغاً.. وإنساناً آخر لم نعد نعرفه».
إرسال تعليق