المشاركات

عرض المشاركات من أكتوبر, 2025

فاروق الدسوقي يكتب: من أجل مشروع وطني لتوثيق حرب أكتوبر

صورة
كل عام، في السادس من أكتوبر، تتردد الأغاني نفسها، تعاد المشاهد ذاتها، تستدعى وجوه الأبطال من بين الأرشيف، كما لو كنا نستحضر ذكرى بعيدة لا نعيشها . نعم، نحتفل بالعبور العظيم، لكن شيئا ما يتسلل من بين أيدينا في كل مرة، شيء لا يرى، لكنه جوهر الحكاية كلها: المعنى .   فالاحتفال وحده لا يكفي، لأنه ليس تاريخا عابرا في التقويم، ولا حدثا في نشرة الأخبار، وإنما معرفة يجب أن تورث، وسرد يجب أن يذكر كما كان، لا كما اختزلته الصور والأغاني والأفلام . الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي إن مرور الزمن لا يمحو الأحداث فقط، لكن تبهت دلالتها في الوجدان، حتى تصبح الحرب في عيون الأجيال الجديدة مجرد أغنية حماسية أو مشهد في فيلم قديم . ومع هذا التلاشي البطيء للمغزى، يتجلى نداء الكاتب الصحفي مصطفى عمار، رئيس تحرير جريدة الوطن، كصرخة في زمن السرعة والسهو: «نحتاج إلى مشروع إعلامي ضخم لجمع وثائق حرب أكتوبر، لتتاح للأجيال المقبلة، لا أن نكتفي بإحياء الذكرى». قد تبدو الدعوة بسيطة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تمس ما نفتقده حقا: أن نمتلك سرد سيرتنا بأيدينا نحن المصريين . فالمبادرة التي يقترحها «عمار» ليست موقعا إلكترونيا أ...

فاروق الدسوقي يكتب: متى يتوقف الأب عن القتال؟

صورة
  كانت السماء رمادية، كأنها تتهيأ للبكاء. الضوء يزحف على الأرض بحذر، والريح تمر بين أوراق الشجر بخفة من يعرف أن شيئا مقدسا يحدث هناك. في باحة بيتنا القديم، الذي تكسوه ملامح الصبر، يجلس أبي على كرسي خشبي مائل شهد كل فصولنا معا: ضحكنا، خلافاتنا، وصمته الطويل. كان المقعد يئن تحت جسده، كأنه تعب من الدور نفسه، من لعبة الحياة التي تنتهي دائما بتبديل الوجوه. أمامه فنجان شاي بارد، لم يشرب منه إلا رشفة واحدة، يداه ساكنتان فوق ركبتيه، لكن داخله يعج بحركة لا تُرى، لم يقل شيئا، لأن الصمت أحيانا أبلغ من الكلام. حوله سكون كثيف يشبه الصلاة، وعلى الطاولة أمامه ورقة مطوية بعناية، وقلم انكسر رأسه، ونسمة تعبر كأنها تفتش في الذاكرة. أما أنا، فأقف في الطرف الآخر من المشهد، أراقبه عن بعد، وجهه مألوف وغريب في ذات الوقت، كأن الدهر عبث في ملامحنا وترك بيننا مرآة نصف مكسورة. اقتربت منه بخطى مترددة، لم أسمع لصدى أقدامي أثرا، حتى قلبي كان ينبض بهدوء غريب، يخاف أن يوقظ شيئا نام منذ أمد طويل. رفع نظره نحوي، وقال بصوت خافت: «هل تعرف متى يتوقف الأب عن القتال؟». لم أجب. نظر بعيدا، وتابع بنبرة متعبة: «حين يصدق أن أ...

فاروق الدسوقي يكتب: على الأسفلت.. عندما خذلنا «ابن الحلال»

صورة
تنويه: «هذا النص مستلهم من أحداث حقيقية، وأي تطابق مع الحياة مقصود تماما، فالواقع أحيانا يكتب القصص أفضل من الخيال». أحيانا لا تأتي دروس الحياة في قاعات الدراسة، وإنما على الأسفلت، في لحظة عطل بسيط قد يكشف معدن أنفسنا ومن حولنا. لم تكن العبرة عن السرقة ولا الثقة، لكن عن النقاء الذي يصر على البقاء رغم كل ما يحدث لنا، وفي كل مسار طويل، يأتي وقت تختبرنا فيه الحياة دون إنذار، امتحان صغير لشيء أكبر بكثير: إنسانيتنا. كم مرة صادف الإنسان غريبا يمد له يده؟ وكم مرة خذله من حاول أن يبدو ابن حلال؟ اليقين في هذا الزمن يشبه السير حافيا فوق الزجاج، مؤلم، لكنه الدرب الوحيد للحفاظ على ما تبقى من نقاء الفؤاد. وهذا ما حدث.. ذات يوم على مشارف المعادي. كان الطريق يمتد أمامه طويلا فوق أرض ساخنة تحت شمس حارقة، والمحرك يئن بتعب واضح كأنه يوشك أن يتوقف، ثم خذله بالفعل وتعطل. نزل من السيارة، والحرارة تخنق الهواء، ورائحة الحديد الساخن تملأ أنفه، رفع الغطاء فاكتشف العطل البسيط: نقص في ماء الريداتير. في دقائق، توقف سائق نقل، ثم آخر، وجاء ثالث يحمل زجاجة مياه كأنها نجدة من السماء، قال أحدهم بابتسامة مطمئن...

فاروق الدسوقي يكتب: فبصرُك اليوم حديد.. محاكمة خاصة

صورة
هناك أوقات لا تشبه سائر الأيام، ينكسر فيها الزمن، ويتوقف الكون عن الدوران فجأة، فنجد أنفسنا وجهاً لوجه مع حقيقتنا المجردة، أمام مرآة لا ترحم، تدفعنا إلى مواجهة لا مفر منها. بالأمس، وقفنا جميعا حول نعش صديقنا الراحل أحمد، لم يكن يعرفنا كما نعرف أنفسنا، لكنه صار كاشفا لكل ذنوبنا، ما أجلناه، وما سرقناه من أعمارنا ومن حياة الآخرين. كانت السماء رمادية، والبرد يلتف حولنا مثل خيط رقيق من المعصية، والصمت ثقيل، لكنه ليس أقوى من أصواتنا الداخلية التي فضحت ما نخفيه عن الجميع. حملنا الصندوق معا، وفي اللحظة ذاتها حمل كل واحد منا محاكمته الخاصة، لم يكن هناك قضاة ولا شهود، فقط ضمائرنا العارية وحدها. اقترب محمد من التابوت، والارتجاف يفضح قلبه، فهو الخائن الذي لم يغفر لنفسه غدره لزوجته منى، استحضر كل وعد ضاع، وكل دمعة تركها على وجنتيها، وكل ليلة كان يعود متأخرا ليخفي سره عنها. رأى في ذهنه وجه ابنته الصغيرة ليلى، تنظر إليه ببراءة وهو يحتضن في داخله خيانة موجعة، وقف أمام سرير الميت يواجه مرآته، لا مهرب، ولا عذر، ولا غفران: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». وبالقرب منه كان خالد ي...