فاروق الدسوقي يكتب: فبصرُك اليوم حديد.. محاكمة خاصة
هناك أوقات لا تشبه سائر الأيام، ينكسر فيها الزمن، ويتوقف الكون عن الدوران فجأة، فنجد أنفسنا وجهاً لوجه مع حقيقتنا المجردة، أمام مرآة لا ترحم، تدفعنا إلى مواجهة لا مفر منها.
بالأمس، وقفنا جميعا حول
نعش صديقنا الراحل أحمد، لم يكن يعرفنا كما نعرف أنفسنا، لكنه صار كاشفا لكل
ذنوبنا، ما أجلناه، وما سرقناه من أعمارنا ومن حياة الآخرين.
كانت السماء رمادية،
والبرد يلتف حولنا مثل خيط رقيق من المعصية، والصمت ثقيل، لكنه ليس أقوى من أصواتنا
الداخلية التي فضحت ما نخفيه عن الجميع.
حملنا الصندوق معا، وفي
اللحظة ذاتها حمل كل واحد منا محاكمته الخاصة، لم يكن هناك قضاة ولا شهود، فقط
ضمائرنا العارية وحدها.
اقترب محمد من التابوت،
والارتجاف يفضح قلبه، فهو الخائن الذي لم يغفر لنفسه غدره لزوجته منى، استحضر كل
وعد ضاع، وكل دمعة تركها على وجنتيها، وكل ليلة كان يعود متأخرا ليخفي سره عنها.
رأى في ذهنه وجه ابنته
الصغيرة ليلى، تنظر إليه ببراءة وهو يحتضن في داخله خيانة موجعة، وقف أمام سرير
الميت يواجه مرآته، لا مهرب، ولا عذر، ولا غفران: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ
إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».
وبالقرب منه كان خالد
يرتجف بدوره، فهو الذي قبل رشوة، وظن أن المال سيغطي فراغه الداخلي، لكن النقود
التي مرت بين أصابعه تحولت في ذاكرته إلى طعنات في كرامته.
استرجع وقت اشترى هدية
لابنه محمود بمال حرام، وكيف لم يستطع أن ينظر في عينيه حين قدمها له، كل ربح بلا
حق صار ثقلا يسحق روحه.
ثم دوى في السكون:
«وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ».
وفي زاوية أخرى ابتلع
سعيد ريقه بصعوبة، فهو السارق الذي حمل أثقالا لا تراها العيون، جلب صورة الوجوه التي
حرمها حقوقها، والأصوات التي تجاهلها، والجوع الذي أصبح ثمرة جشعه.
تذكر أمه فاطمة، التي
ربته على الأمانة، وكيف خذل وصاياها، كل قرش مسروق صار حجرا على صدره، ولعنة
تطارده في صمته.
أما الشاب الذي وقف
بعيدا، علي، فيحمل ندوبا أخرى، عاش غاضبا من والده عبدالله، وظن أن الحياة ستكون
أفضل من دونه.
لكنه حين ثبت عند القبر،
استعاد ملامح أبيه عندما مرض، وكيف أدار ظهره له، علمه الوداع درسا قاسيا: الغضب
لا يعاقب أحدا بقدر ما يعاقب صاحبه، والغفران ليس منحة للآخر، وإنما نجاة للنفس
أولا.
وتردد في الأعماق نذير
آخر: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ».
وهناك الرجل الذي لم
يعتذر، حسن، ظل يحرك يديه في الهواء كمن يكتب على جدار الغياب اعتذارا متأخرا،
تبادر إلى فكره زوجته أمينة التي جرحها بكلمة قاسية ولم يقل يوما: «سامحيني».
وشاهد صديقه إبراهيم الذي
خاصمه لسنوات بسبب عناد، كم مرة بخل بقول بسيط كان يمكن أن ينقذ قلبا؟
أدرك فجأة أن بعض الأبواب
أُغلقت إلى الأبد، لكن بعضها ما زال ينتظر منه كلمة واحدة ليفتح من جديد.
وبين هؤلاء كلهم، كنت
أنا، لست بريئا ولا شاهدا محايدا، كنت أنقل الكلام بين الناس، أزرع الشك وأشعل
الوقيعة بينهم.
ظننت أن الكلمات مجرد
هواء، فإذا بها تتحول نارا تحرق القلوب، رأيت هيئة ابني تمر في ذهني، وخفت أن يكبر
فيتعلم مني ما يفسد فؤاده.
وحين انزلق صاحبنا إلى
التراب بصمت عميق، لم نخرج كما دخلنا، العرق البارد تسلل بين أصابعنا، والهواء صار
أثقل من الحديد، لم يعد هناك مكان للكذب، ولا مهرب من الوعود المؤجلة.
حتى بلغ النداء ذروته:
«لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ».
هنا انكشفت وجوهنا أمام
ذواتنا، لم يعد في القلب ما يُخفى، ولا في العين ما يُوارى.
خرجنا من المقبرة محملين
بوعد صامت: أن نعيش بصدق، أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الزمن، وأن نستلهم عبرة
من رحيل من سبقونا.
لكن - يا لسخرية القدر -
استيقظنا في صباح اليوم التالي، وكأن شيئا لم يحدث.
محمد عاد إلى خداع منى.
خالد مد يده من جديد إلى
السُحت.
سعيد أحصى أرباحه من
السرقة.
علي أعرض عن والده.
وأنا عدت أحرك الأحاديث
كشرارة فتنة.
كأن الذي واريناه بالأمس
لم يكن رفيقنا، بل نحن، دفنا لحظة الوعي الوحيدة التي منحها لنا الوداع مجانا،
نتعظ لبرهة، ثم نرتد إلى آثامنا الأولى.
كان الدرس صارخا، لكننا
خُناه.
وكان الناقوس مدويا،
لكننا سددنا آذاننا.
ولم يبقَ إلا سؤال معلّق،
يطاردنا كلما واجهنا انعكاسنا:
حين يأتي يومنا، ماذا
سيتذكّر الناس منا؟
هل سيحملون أجسادنا على
أكتافهم بخشوع.. أم سيحملون خطايانا التي أرهقنا بها أفئدتهم حتى القبر؟
تعليقات