فاروق الدسوقي يكتب: متى يتوقف الأب عن القتال؟
كانت السماء رمادية، كأنها تتهيأ للبكاء.
الضوء يزحف على الأرض بحذر، والريح تمر بين أوراق الشجر بخفة من يعرف أن شيئا مقدسا يحدث هناك.
في باحة بيتنا القديم، الذي تكسوه ملامح الصبر، يجلس أبي على كرسي خشبي مائل شهد كل فصولنا معا: ضحكنا، خلافاتنا، وصمته الطويل.
كان المقعد يئن تحت جسده، كأنه تعب من الدور نفسه، من لعبة الحياة التي تنتهي دائما بتبديل الوجوه.أمامه فنجان شاي بارد، لم يشرب منه إلا رشفة واحدة، يداه ساكنتان فوق ركبتيه، لكن داخله يعج بحركة لا تُرى، لم يقل شيئا، لأن الصمت أحيانا أبلغ من الكلام.
حوله سكون كثيف يشبه الصلاة، وعلى الطاولة أمامه ورقة مطوية بعناية، وقلم انكسر رأسه، ونسمة تعبر كأنها تفتش في الذاكرة.
أما أنا، فأقف في الطرف الآخر من المشهد، أراقبه عن بعد، وجهه مألوف وغريب في ذات الوقت، كأن الدهر عبث في ملامحنا وترك بيننا مرآة نصف مكسورة.
اقتربت منه بخطى مترددة، لم أسمع لصدى أقدامي أثرا، حتى قلبي كان ينبض بهدوء غريب، يخاف أن يوقظ شيئا نام منذ أمد طويل.
رفع نظره نحوي، وقال بصوت خافت: «هل تعرف متى يتوقف الأب عن القتال؟».
لم أجب.
نظر بعيدا، وتابع بنبرة متعبة: «حين يصدق أن أولاده لم يعودوا بحاجة إليه»، ثم سكت كمن ينهي معركة طويلة لم يخرج منها أحد منتصرا.
كافح أبي الفقر يوم لم يجد إلا بسمة ليطعمنا بها، وواجه جسده عندما كان ينهض للعمل رغم ألم ركبتيه، وتنازل عن كبريائه ليطلب المساعدة سرا ليكمل تعليمنا.
غالب ضعفه، وكتم رغبته في البكاء أمامنا، واحتمل صراخنا وقت أن كبرنا، وخوفه من اليوم الذي سنرحل فيه ونتركه خلفنا بلا دور، ظل يصمد حتى وهو متكئا على عصاه ليرمم شرخا صغيرا في المنزل، ليقول للزمن: «ما زلت هنا».
ثم أشار بيده المرتجفة نحو مقر عمله القديم، وقال بمرارة فيها طمأنينة: «عملت طوال الوقت لأفتح أمامكم جميع الأبواب، لكني لم أتعلم كيف أبقي بابا واحدا مفتوحا بيني وبينكم».
تقدمت نحوه أكثر، ورأيت ما لم أره من قبل، التعب وقد استقر في عينيه، الخوف وهو يحاول أن يتنكر في هيئة صبر، كل تجعيدة في وجهه كانت سطرا من حياة لا يقرؤها إلا من عاشها، وكل وجوم جملة مكتوبة بالوجع.
قلت بصوت مرتعش: «كنت تخاف؟».
ابتسم ابتسامة لا تُنسى، وقال: «كنت أقاتل».
تجمدت كلماته في الهواء، والمشهد بدأ يتداعى أمام عيني، رأيت طفولتي تعود، وأنا أركض في أحضانه، وأضحك بلا سبب، ثم شاب يصرخ في وجهه، ويغادر البيت غاضبا.
كانت الصور تتداخل كصفحات من حلم يرفض أن يستيقظ.
ثم عاد الهدوء، ورجع والدي إلى مكانه، الضوء الخافت يحيطه من جديد، أمسك بالورقة أمامه، فتحها ببطء، وقرأ بصوت أقرب إلى الهمس: «إلى أولادي.. لا تبحثوا عن النصر في الخارج، فكل معركة تبدأ من الداخل، كنت أقاوم حتى لا تسقطوا، لا لأنتصر».
رفعت رأسي، لكن الكرسي كان خاليا، الورقة وحدها تتحرك مع نسمة خفيفة، كأنها تتنفس نيابة عنه.
بدأ المشهد يتلاشى.
الهواء يذوب، النور ينسحب، والأرض تختفي من تحت قدمي، وصوت يشبه الانكسار في داخلي، ثم عتمة.
استيقظت على أنفاسي، كأن الحلم ترك أثره في صدري.
الفجر يتسلل من خلف الستائر، والعرق يلمع على جبيني، جلست في الظلام، ألهث، مددت يدي إلى الطاولة بجانبي، فوجدت ورقة صغيرة بخط أبي القديم.
الكلمات ذاتها.
الحبر ذاته.
الهمس نفسه.
لبثت طويلا لا أتكلم، ثم خرجت إلى الحديقة، واتكأت على الكرسي الخشبي نفسه، وقلت بصوت مبحوح: «الآن فقط فهمت، أنك لم تكن تصمت ضعفا، لكن لكي نحكي نحن».
رفعت رأسي إلى السماء الشاحبة، رأيت الغيوم تتحرك بتأن، ابتسمت للمرة الأولى منذ زمن طويل، ولم أعرف هل ابتسامتي هذه فوز صغير، أم بداية لحرب أخرى.
لكني ما زلت متأكدا من شيء وحيد: أن الأب لا يتوقف عن الصراع، لكنه يورث أبناءه سيفه في هيئة حب صامت، ومقعد خشبي يدور بنا كما تدور لعبة الكراسي، نقوم ونسقط، نضحك ونبكي، حتى يأتي دورنا لنجلس في المكان نفسه.
ونكتشف أن الجلوس لم يكن راحة، وإنما استمرارا للمعركة التي لا يراها أحد، ويخوضها الآباء في صمت.
.png)
تعليقات