على الأسفلت.. عندما خذلنا «ابن الحلال»

تنويه: «هذا النص مستلهم من أحداث حقيقية، وأي تطابق مع الحياة مقصود تماما، فالواقع أحيانا يكتب القصص أفضل من الخيال».

أحيانا لا تأتي دروس الحياة في قاعات الدراسة، وإنما على الأسفلت، في لحظة عطل بسيط قد يكشف معدن أنفسنا ومن حولنا.

لم تكن العبرة عن السرقة ولا الثقة، لكن عن النقاء الذي يصر على البقاء رغم كل ما يحدث لنا، وفي كل مسار طويل، يأتي وقت تختبرنا فيه الحياة دون إنذار، امتحان صغير لشيء أكبر بكثير: إنسانيتنا.

كم مرة صادف الإنسان غريبا يمد له يده؟

وكم مرة خذله من حاول أن يبدو ابن حلال؟

اليقين في هذا الزمن يشبه السير حافيا فوق الزجاج، مؤلم، لكنه الدرب الوحيد للحفاظ على ما تبقى من نقاء الفؤاد.

وهذا ما حدث.. ذات يوم على مشارف المعادي.

كان الطريق يمتد أمامه طويلا فوق أرض ساخنة تحت شمس حارقة، والمحرك يئن بتعب واضح كأنه يوشك أن يتوقف، ثم خذله بالفعل وتعطل.

نزل من السيارة، والحرارة تخنق الهواء، ورائحة الحديد الساخن تملأ أنفه، رفع الغطاء فاكتشف العطل البسيط: نقص في ماء الريداتير.

في دقائق، توقف سائق نقل، ثم آخر، وجاء ثالث يحمل زجاجة مياه كأنها نجدة من السماء، قال أحدهم بابتسامة مطمئنة: «خير، بسيطة إن شاء الله»، وتحدث آخر: «استنى لما يبرد، وزودها».

بدا عليه الرضا، وأدرك في ذلك الوقت أن الخير لم يختف، بل صار يطل متخفيا في كرم الغرباء، جلس يراقب السكة، بينما كان القدر يجهز له درسا آخر.

ظهر من بعيد فتى يقود مركبة لامعة، يضع نظارة شمسية على وجهه تخفي أكثر مما تظهر، وبجواره امرأة صامتة، ركن أمامه بخطوات واثقة كأن الشارع ملكه، اقترب منه بسرعة قائلا: «متتعبش نفسك، معايا ميه كتير».

رفع الغريب طرف النظارة، والتقت عيناه بعينيه، فشعر بشيء غامض في تلك النظرة لا يبعث على الطمأنينة، نطق بعزيمة باردة: «دور الموتور، أنا مهندس في التوكيل».

فأجابه بلطف: «والله مفيش داعي تتعب نفسك»، لكن السائق أصر قائلا: «اسمع الكلام، دور»، ضحك بخفة وهمس: «خليني أشوف نهاية الفيلم ده».

دارت، وتكلم الشاب بعدها بثبات مفتعل: «عربيتك بقت زي الفل»، شكره، لكنه استمر يراقبه في صمت، ليفاجأ به يفتح باب العربة ويجلس خلف الدركسيون كأنه يعرفها منذ زمن.

قال بنبرة أمر لطيفة: «بص، أنا هدوس بنزين، وإنت زود»، وافق، لكنه أبقى عينيه عليه من خلف الزجاج كما يراقب الصياد فريسته، وفي رأسه مرت الفكرة: دلوقتي هيمد إيده وياخد الموبايل اللي في التابلوه.

وفعلا، لم يخيب ظنه!

نزل المخادع، وأكمل بصدق اللصوص حين يظنون أنهم نجحوا: «تمام كده، اشتغلت، محتاج حاجة تاني؟ سلام»، ناداه قبل أن يركب حافلته الصغيرة: «استنى.. فين التليفون؟»، التفت دون أن يتلعثم قائلا: «في العربية».

قال له بهدوءٍ حازم: «لا، أنا بتكلم عن التاني اللي كان في التابلوه»، رفع الوافد يده كمن يقدم نفسه للتفتيش، لكنه رفض قائلا: «لا طبعا، مش هفتشك، ولا أقل منك قصاد الست اللي معاك.. أنا هركب، وإنت هتجيبه».

عاد إلى مقعده خلف المقود، وفي ثوان كان النصاب يجلس بجانبه، يخرج الهاتف ويضعه في يده، وعيناه تبحثان عن تفسير لابتسامته.

ابتسم اللص بخجل مرتبك: «بس انت غلطان، المفروض متأمنش لحد»، فأجابه صاحب الآلة المعطلة بوضوح: «لأ، أنا على فطرتي.. بآمن لأي شخص، لحد ما يخون، وتقدر تمشي دلوقتي، علشان متتأخرش أكتر من كده».

أغلق السارق باب عربته وانطلق في الأفق، أما هو فظل متأملا كيف يجتمع الخير والشر على الأسفلت نفسه، في اليوم ذاته.

تنفس بعمق، لم يشعر بالغضب، ولا حتى بالانتصار، أدار سيارته ببطء، ثم مضى، تاركا خلفه اللص والموقف والمكان، ومحتفظا بما هو أثمن من كل شيء: سلام القلب والنفس.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فاروق الدسوقي يكتب: رسالة إلى نقيب الصحفيين.. لماذا لم تأتِ؟

فاروق الدسوقي يكتب: 20 دقيقة في حضرة «سوار الذهب»

فاروق الدسوقي يكتب: «حكاية ربانية» يعرفها «أبوسكينة»