فاروق الدسوقي يكتب: من أجل مشروع وطني لتوثيق حرب أكتوبر

كل عام، في السادس من أكتوبر، تتردد الأغاني نفسها، تعاد المشاهد ذاتها، تستدعى وجوه الأبطال من بين الأرشيف، كما لو كنا نستحضر ذكرى بعيدة لا نعيشها.

نعم، نحتفل بالعبور العظيم، لكن شيئا ما يتسلل من بين أيدينا في كل مرة، شيء لا يرى، لكنه جوهر الحكاية كلها: المعنى. 

فالاحتفال وحده لا يكفي، لأنه ليس تاريخا عابرا في التقويم، ولا حدثا في نشرة الأخبار، وإنما معرفة يجب أن تورث، وسرد يجب أن يذكر كما كان، لا كما اختزلته الصور والأغاني والأفلام.

الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي

إن مرور الزمن لا يمحو الأحداث فقط، لكن تبهت دلالتها في الوجدان، حتى تصبح الحرب في عيون الأجيال الجديدة مجرد أغنية حماسية أو مشهد في فيلم قديم.

ومع هذا التلاشي البطيء للمغزى، يتجلى نداء الكاتب الصحفي مصطفى عمار، رئيس تحرير جريدة الوطن، كصرخة في زمن السرعة والسهو: «نحتاج إلى مشروع إعلامي ضخم لجمع وثائق حرب أكتوبر، لتتاح للأجيال المقبلة، لا أن نكتفي بإحياء الذكرى».

قد تبدو الدعوة بسيطة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تمس ما نفتقده حقا: أن نمتلك سرد سيرتنا بأيدينا نحن المصريين.

فالمبادرة التي يقترحها «عمار» ليست موقعا إلكترونيا أو أرشيفا رقميا فحسب، وإنما هوية وطن تبعث من جديد، مساحة حية تعيد رواية الملحمة من أفواه من عاشوها، قبل أن يسدل عليهم النسيان ستائره الأخيرة.

إنها ليست معركة عسكرية فحسب، لكنها رحلة خاضها أبناء هذا الوطن جميعا، من الجبهة إلى البيت، من الخنادق إلى المصانع، من الميدان إلى الحقل.

كانت لحظة اجتمع فيها الخوف والأمل في قلب واحد، وكان كل مصري فيها، جنديا أو مدنيا، شاهدا على ولادة وطن جديد.

تبدأ الفكرة بإنشاء منصة وطنية رقمية تجمع الوثائق والصور والخطابات المسموح بنشرها، إلى جانب الشهادات الحية للجنود والمراسلين والمدنيين.

منبر يتحول من أرشيف جامد إلى حدوتة نابضة بالحياة، تبنى بشراكة بين الدولة ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، وتفتح أبوابها للمواطنين.

ولأن الوقائع لا تكتب بالمؤسسات وحدها، وإنما بوجدان الناس، فإن كل بيت في هذا الوطن يحمل قطعة منها، صورة في صندوق قديم، رسالة من جبهة القتال، ميدالية صامتة على رف، أو قصة تروى على فنجان شاي في ليلة خريفية.

كل تفصيلة من هذه التفاصيل خيط من نسيج مصر، وكل ذكرى شخصية جزء من الوعي الوطني كله.

وسيكون التعاون مع مؤسسات الدولة حجر الأساس في هذا البناء، لكن روحه الحقيقية ستولد من مشاركة أبناء الوطن أنفسهم، من تلك الأم التي تحتفظ برسالة ابنها التي كتب فيها: «سلموا على أمي»، ومن الجندي الذي لا يزال يتذكر رائحة الطين على ضفة القناة، ومن الصحفي الذي حمل الكاميرا بدل البندقية ليسجل لحظة عبور الروح قبل عبور الجيش.

وفي زمن الصورة والتقنية، يمكن أن يتحول الإرث إلى تجربة تفاعلية حية باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي والخرائط الرقمية، فيعيش المصري لحظة الاجتياز كما لو كان هناك، يسمع دوي المدافع، ويرى الجنود وهم يعبرون، ويشعر بأن الانتصار ليس حدثا بعيدا، بل تجربة تجري في دمه هو أيضا، وتظل الحكاية تقص، وتعاش من جديد.

ولكي تبقى هذه المبادرة مستدامة، يمكن أن تبدأ عبر شراكة وطنية تجمع الإعلام الرسمي والخاص، والبنوك والشركات الوطنية، والجمهور الذي يرغب في المساهمة، فتراث الأمم لا يبنى بقرار، وإنما بإيمان جماعي بأن حماية الماضي هي أحد أشكال صون المستقبل.

لكن الغاية الأسمى ليست في تخليد الملحمة، ولكن في تخليد الذين صنعوها أيضا، فكل وثيقة ليست مجرد ورقة، إنما نبض قلب مصري عاش الخوف والأمل في لحظة واحدة.

إن المجد الحقيقي لم يكن في تخطي القناة، لكن في عبور المصريين خوفهم نحو ضوء الإيمان الذي قادهم إلى تحرير أرض سيناء.

كل صورة لجندي يبتسم وسط الحرب تقول لنا إن البطولة ليست في الرصاص، ولكن في الإصرار على النجاح وسط الموت.

لقد عبر المصريون القناة ذات يوم، واليوم عليهم أن يعبروا نحو فهم جديد يحمي ذاكرتهم من النسيان.

خاض الجنود حربهم بالسلاح، وعلينا نحن اليوم أن نخوض حربنا بالقلم واليقظة، حتى تبقى السيرة حية في ضمير كل جيل يولد بعدنا.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فاروق الدسوقي يكتب: رسالة إلى نقيب الصحفيين.. لماذا لم تأتِ؟

فاروق الدسوقي يكتب: 20 دقيقة في حضرة «سوار الذهب»

فاروق الدسوقي يكتب: «حكاية ربانية» يعرفها «أبوسكينة»