المشاركات

عرض المشاركات من سبتمبر, 2025

فاروق الدسوقي يكتب: أخطر من المخدرات.. أنا لست عبدًا لأفكاري

صورة
قبل أعوام، دخلتُ عيادته كمن يجرّ وراءه حقيبةً مثقلةً بأيامٍ مشحونة، حملاً لا يراه أحد، لكنه يسحبني إلى الأرض كحجرٍ مربوطٍ في قدمي. جلستُ في غرفة الانتظار أحدّق في ساعةٍ معلّقةٍ على الجدار، تتحرك عقاربها ببطء، كأنها تشاركني عبءَ روحي. نادوا اسمي، فاتجهتُ إلى حجرة صغيرةٍ يملؤها نورٌ خافت، كان هناك مكتبٌ تتناثر فوقه أوراق، ومجسّمٌ صغيرٌ لدماغٍ بشري، وكرسيّان متقابلان، أحدهما لي، والآخر لرجلٍ بدا وكأنه يقرأ وجهي أكثر مما يطالع ملفي. رفع الطبيب عينيه عن حافظة بياناتي، نظر إليّ مليًّا، ثم خاطبني بنبرةٍ هادئةٍ لكنها لا تحتمل الجدال: «أنتَ مدمن.. وتعاني من اكتئابٍ حاد». اخترقتني كلماته كصفعة، فارتبكتُ وأجبتُ بسرعة: «لكني تركتُ الخمر منذ سنوات، وهجرتُ المخدرات منذ عقد». ابتسم ابتسامةً قصيرة، كمن يملك الحقيقة منذ زمن، وقال: «أنتَ أسير التعلّق بالأماكن التي رحلتَ وما زلتَ تسكنها، بالوجوه التي مضت ولا تتركها، بالذكريات التي انتهت ولا تكفّ عن إعادة شريطها بلا نهاية». خرجتُ من عنده أجرّ خطواتي المكبّلة، فوجدتُ صديقي ينتظرني على الرصيف، كان يعرف أنني أكره دخول مثل هذه الأماكن وحدي. أشعل سيجارته وسأل...

فاروق الدسوقي يكتب: مصر تعفو.. فهل يعتذر علاء عبد الفتاح؟

صورة
في كل صباح خلال مظاهرات 25 يناير، وما تلاها من أحداث صعبة مشابهة في مصر، كانت العائلات تتابع الأخبار، على أمل أن يعود أبناؤهم سالمين، وأن يكون رجال الشرطة والجيش في أمان. ثم تأتي كلمات على مواقع التواصل، تتحول كالرصاص في البيوت، وتزرع الخوف في القلوب. هكذا كانت منشورات علاء عبد الفتاح بالنسبة لنا، ليست مجرد كلمات على الهاتف، بل صرخات تهدد الطمأنينة وتطرح سؤالًا صعبًا: هل يمكن أن نمارس الحرية إذا كانت تهدد حياة الأبرياء؟ الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي كانت أمي تجلس على أريكتها القديمة، الهاتف بين يديها، تتابع الأخبار كعادتها كل يوم، حتى وقعت عيناها فجأة على منشور كتبه علاء عبد الفتاح على مواقع التواصل، يحرض فيه ضد رجال الشرطة والجيش.  شعرت وكأن الكلمات تخترق قلبها، فهي لم تكن مجرد حروف، بل تهديد مباشر لنا جميعًا. ابن خالي، ضابط الشرطة، يخرج كل صباح مرتديًا بدلته، مودعًا أهله بابتسامة، بينما تظل قلوبنا مليئة بالقلق والدعاء.  كنت أرى الخوف في ملامح أمي مع كل تدوينة أو فيديو جديد لعلاء، حتى صار هذا الخوف عادة يومية، وبدأت تطلب مني الاتصال بأسامة للاطمئنان عليه قبل أن ينام. ولم تشعر أ...

فاروق الدسوقي يكتب: حين تسكننا الأماكن.. لماذا تراقبنا الشوارع؟

صورة
ماذا لو استيقظتَ يومًا ووجدتَ نفسك في فناء مدرستك القديمة؟ جدرانها العالية وألوانها الزاهية تستقبلك من جديد، وصوت الجرس يعود ليرنّ في أذنك، وترى الطفل الصغير الذي كنتَه يركض نحو الفسحة، يحمل سندويتشًا بسيطًا ودفترًا مُلطَّخًا بالحبر. أو مررتَ ببيتك القديم الذي هُدم منذ سنوات، ومع ذلك لا تلاحظ العمارة الحديثة التي حلّت مكانه، بل تراه كما كان: بابه الخشبي المتداعي، ووجوه الجيران القدامى على العتبة، ورائحة الخبز التي تخرج من النوافذ. الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي حتى في أحلامك لا يزورك البناء الجديد، بل المأوى المهدوم وحده هو من يطلّ عليك، كأن المنازل تعي كيف تحفر مواضعها في القلب بحيث لا تقتلعها الجرافات. ثم تجد نفسك أمام المقهى الذي اعتدتَ أن تجلس فيه مع أصدقائك، الكراسي فارغة، لكنها ما زالت تحتفظ بأصواتكم، وقهقهاتكم تتردّد بين الطاولات الخشبية المتهالكة. لم يتبدّل المشهد كثيرًا، لكنكم تغيّرتم، وهو يدرك ذلك جيّدًا. وهناك شارع آخر تمشي فيه دائمًا، فتشعر أنه يَسْتَوْعِب أسرارك، على ناصيته عرفتَ الحب أول مرة، وفي منتصفه بكيتَ هزيمتك، وعلى رصيفه كتبتَ في ذهنك قصيدة لم تكتمل. وكلما عدتَ إليه، ...

فاروق الدسوقي يكتب: أوفريندا «الدسوقي».. وعبقرية «الزيات»

صورة
أراني أحمل في قلبي همًّا ينهش الحزنُ منه. حين طرق الفَجْع بابي دون استئذان، دخل كعاصفة، خلخل جدراني، وتركني في فراغٍ حالك، وأرضٍ غامضة، ومتاهةٍ بلا خرائط. يوم رحل شقيقي الأكبر، الكاتب الصحفي محمد الدسوقي، هزّ انصرافه أعماقي، وطرحني في أرضٍ شاسعة بلا معالم. الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي تحطّم شيءٌ عميقٌ في داخلي، أمرٌ لا يمكن ترميمه بالكلمات ولا بالمواساة. لم يكن «الدسوقي» مجردَ أخ، بل أبي الثاني، وسندي، ومرآتي التي أرى فيها نفسي وأختبر ملامحي. معه كان البيت أكثر دفئًا، والعالم أوسع وأكثر رحابة، والحياة ـ مهما قست ـ أهون وأحن، طالما هو هناك. الأسى على فقد الأخ الأكبر ليس مجرد وجع، إنه أشبه بانهيار شجرةٍ عتيقة كانت تظلّك طول العمر، فإذا بك عاري الرأس أمام شمسٍ قاسية وريحٍ لا ترحم. تستدعي الذاكرة وجهه وصوته وضحكته وصبره، ثم تدرك فجأةً أنه لم يعد هنا، وأن رحيله ترك فراغًا يشبه مسرحًا فارغًا: بلا جمهور، بلا موسيقى، بلا تصفيق. كان كتفي الذي أَحتَمي به، وحين غادر انكسر ظهري، وانطفأ شيء من طفولتي، وصرت أمشي في صحراء معتمة لا دليل فيها إلا ذكراه. بالأمس، أطفأت الأنوار في غرفتي، وجلست وحدي أسترجع ...

فاروق الدسوقي يكتب: قارب نجاة.. ماذا يفعل الموتى في سريري؟

صورة
لم أسأل نفسي يومًا: ما الذي يدفعني إلى الكتابة؟ كنت أظن أن الإجابة بديهية، بسيطة، واضحة، لا تحتاج إلى علامة استفهام، حتى ذلك المساء، عندما توقّف صديق أمامي فجأة، نظر في عينيّ، وسأل بهدوء أربكني: لماذا تكتب؟ ابتسمتُ بلطف، كأنني أملك الجواب في جيبي الخلفي، لكن سؤاله ظل يتردّد داخلي مثل صدى بعيد، يوقظ شيئًا كنت أظنه نائمًا منذ زمن . الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي هل أكتب لأفرّ من نفسي أم لأواجهها؟ هل أُسطّر لأن الورق وحده لا يخذلني، لا يقاطعني، لا ينظر إليّ بشفقة أو اتهام؟ أو حتى لا يضيع وجهي في زحام هذا العالم، ويبقى صوتي حيًّا ولو بين السطور؟ وربما لأن ذاتي مثقَلة بما لا يُقال، بما لو ظلّ حبيسًا، لتحوّل إلى قنبلة في صدري . تذكّرت حينها كلمات نانسي، معالجتي النفسية: «إنّ عقلك أشبه ببالون، إذا امتلأ أكثر مما يحتمل، انفجر ». كنت قد توقّفت عن البَوح منذ زمنٍ طويل.. انقطعت عن التجوّل في شوارع وسط البلد، عن الأغاني التي كانت تُعيد ترتيب روحي، وعن مشاهدة الأفلام التي كنت ألوذ بها من كلّ شيء . توقّف كلّ شيء، ولم يتبقَّ سوى الألم، ذلك الثقل الذي يضغط على صدري، والليل الطويل الذي لا ينتهي. قالت نانس...

فاروق الدسوقي يكتب: ما تراه ليس كما يبدو.. حكاياتٌ تسكن الذاكرة

صورة
في نهاية الممر، داخل غرفة ضيّقة، يقع مكتبي، كان الزحام ذلك اليوم غير مألوفًا: موظفون، عمّال نظافة، عامل البوفيه، وحتى رئيس الهيئة نفسه، يُربّت على أكتافنا كمن يستقبل ناجين من كارثة محققة . داخل مبنى حكومي عتيق، توقّف المصعد بين طابقين.. ظلام دامس، أنفاس متقطعة، ووجوه مذعورة تتصبب عرقًا، بدا المشهد واضحًا، كما لو أنّه مواجهة مع الموت داخل صندوق حديدي معلّق، هكذا رآه كل من سمع الحكاية، لكن الحقيقة لم تكن كما يظنّون . الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي حين وصلنا أخيرًا إلى الطابق السادس ونجونا، استقبلنا الجميع كأبطال خرجوا للتو من مجابهة الهلاك، قيلت العبارات المعتادة: «الحمد لله على السلامة»، كان المشهد إنسانيًا، صادقًا، مليئًا بالطمأنينة، لكن الحقيقة كانت شيئًا آخر تمامًا . لقد رأوا نجاتي، بينما كنت ما أزال عالقًا في ذاكرتي، لم يكن المصعد مجرد آلة متعطّلة، بل مرآة لحياتي المعلّقة بين ماضٍ يرفض الرحيل وحاضرٍ ناقص.. مفارقة أزلية: الناس يرون ما يظهر لهم، لا ما يسكن الأعماق. أوهمتهم ابتسامتي أن الخطر انتهى، لكن في داخلي أصوات قديمة تتردّد، وجوه تلوّح من بعيد، وذِكرى تهزّ كياني كما يهتزّ الشجرُ في ...