فاروق الدسوقي يكتب: قارب نجاة.. ماذا يفعل الموتى في سريري؟

لم أسأل نفسي يومًا: ما الذي يدفعني إلى الكتابة؟

كنت أظن أن الإجابة بديهية، بسيطة، واضحة، لا تحتاج إلى علامة استفهام، حتى ذلك المساء، عندما توقّف صديق أمامي فجأة، نظر في عينيّ، وسأل بهدوء أربكني: لماذا تكتب؟

ابتسمتُ بلطف، كأنني أملك الجواب في جيبي الخلفي، لكن سؤاله ظل يتردّد داخلي مثل صدى بعيد، يوقظ شيئًا كنت أظنه نائمًا منذ زمن.

الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي

هل أكتب لأفرّ من نفسي أم لأواجهها؟

هل أُسطّر لأن الورق وحده لا يخذلني، لا يقاطعني، لا ينظر إليّ بشفقة أو اتهام؟

أو حتى لا يضيع وجهي في زحام هذا العالم، ويبقى صوتي حيًّا ولو بين السطور؟

وربما لأن ذاتي مثقَلة بما لا يُقال، بما لو ظلّ حبيسًا، لتحوّل إلى قنبلة في صدري.

تذكّرت حينها كلمات نانسي، معالجتي النفسية: «إنّ عقلك أشبه ببالون، إذا امتلأ أكثر مما يحتمل، انفجر».

كنت قد توقّفت عن البَوح منذ زمنٍ طويل.. انقطعت عن التجوّل في شوارع وسط البلد، عن الأغاني التي كانت تُعيد ترتيب روحي، وعن مشاهدة الأفلام التي كنت ألوذ بها من كلّ شيء.

توقّف كلّ شيء، ولم يتبقَّ سوى الألم، ذلك الثقل الذي يضغط على صدري، والليل الطويل الذي لا ينتهي.

قالت نانسي: «اكتب.. أخرج ما تُخبّئه الكلمات قبل أن يبتلعك الفراغ»، لكنني لم أفعل.. كنت أؤجّل الأمر، وأتهرّب من القلم كما يهرب مذنبٌ من اعترافه الأخير.

في تلك الليلة، عدتُ إلى المنزل في ساعة متأخرة.. لا أحب العودة مبكرًا إلى ذلك المكان الذي يحتفظ بظلال شقيقتي، بصوتها، وبضحكتها التي كانت تمنح الجدران معنًى.. رحلت، وبرحيلها رحل النوم، كأن الطمأنينة حزمت حقائبها معها وغادرت.

بالأمس فقط، نجحتُ في النوم لدقائق، لكنني استيقظتُ مذعورًا بعدما رأيتُ موتى ينامون بجواري على السرير.

نعم، موتى.. لكن ماذا يفعلون في سريري؟

الليلة، تكرّر المشهد.

لم يكن الأمر مجرّد حلمٍ عابر، أو هلوسة دواء، أو لعنة، كما كانت تقول جدّتي: «إنّ الأرواح لا تحب الوحدة».

كنت أراهم بوضوح، بنفس الوجوه التي أعرف بعضها، وأجهل معظمها.. ملامح شاحبة، أجساد ساكنة، عيون مفتوحة تتأملني في الظلام.

أبي كان بينهم، بهَيئته التي غطاها التراب منذ سنوات، وجارتنا العجوز التي ماتت في شقتها وحيدة، والطفل الذي سقط يومًا من شرفة الطابق الخامس، وقرب الوسادة هناك، امرأة لا أعرفها، لكنني أُقسم أنني رأيتُها في جنازةٍ قديمة.

جلستُ في فراشي، وقلبي يدقّ بعنف، أحاول أن أفهم:

لماذا جاؤوا؟

هل لأنني لم أعد أنام؟

أم لأنني صرتُ أشبههم.. نصف حيٍّ ونصف ميّت؟

جلسوا جميعًا بصمت، كأنهم ينتظرون شيئًا مني.. لم أتحرّك، لكن الهمس جاء واضحًا: اكتب.

مددتُ يدي نحو القلم، كأنني أمدّها نحو قارب نجاة في بحرٍ مظلم.

وحين انتهيت، رفعتُ رأسي، لم أجد أحدًا.

اختفوا جميعًا.

السرير بات خاليًا، مثلي تمامًا، لكنني شعرتُ، لأوّل مرة منذ زمن بعيد، أنني تنفّستُ بعمق، وأن النوم سيأتي بلا راحلين أخيرًا.

وعندها فهمت:

الكتابة لم تكن ترفًا، ولا هوايةً قديمة أحنّ إليها، إنها الطريقة الوحيدة حتى لا نتحوّل نحن أنفسنا إلى أموات.

حتى لا يصبح ما في داخلنا مقبرةً صامتة.

كي نمنح الحكايات جسدًا، بدل أن تبقى أطيافًا تجرّ أرواحنا وراءها.

لننجو من الوحدة، من الغياب، من الليل الذي لا ينام.

نُشفى من آلامنا.

ونُسقط عن أرواحنا ثِقل الذكريات التي تنهشنا في السكون.

نتصالح مع جراحنا، ونغسل بالخطوط ما عجزت الأيام عن مداواته.

نُخلّص قلوبنا من الكراهية، والغضب، والخوف، والوجع.

نعيد تشكيل ذواتنا المبعثرة.

علّنا نجد ما فقدناه في الطريق.

ونُبقي على ما تبقّى من إنسانيتنا.

ببساطة.. نكتب كي نعيش مرة أخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فاروق الدسوقي يكتب: رسالة إلى نقيب الصحفيين.. لماذا لم تأتِ؟

فاروق الدسوقي يكتب: 20 دقيقة في حضرة «سوار الذهب»

فاروق الدسوقي يكتب: «حكاية ربانية» يعرفها «أبوسكينة»