فاروق الدسوقي يكتب: مصر تعفو.. فهل يعتذر علاء عبد الفتاح؟
في كل صباح خلال مظاهرات 25 يناير، وما تلاها من أحداث صعبة مشابهة في مصر، كانت العائلات تتابع الأخبار، على أمل أن يعود أبناؤهم سالمين، وأن يكون رجال الشرطة والجيش في أمان.
ثم تأتي كلمات على مواقع التواصل، تتحول كالرصاص في البيوت، وتزرع الخوف في القلوب.
هكذا كانت منشورات علاء عبد الفتاح بالنسبة لنا، ليست مجرد كلمات على الهاتف، بل صرخات تهدد الطمأنينة وتطرح سؤالًا صعبًا: هل يمكن أن نمارس الحرية إذا كانت تهدد حياة الأبرياء؟
![]() |
الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي |
كانت أمي تجلس على أريكتها القديمة، الهاتف بين يديها، تتابع الأخبار كعادتها كل يوم، حتى وقعت عيناها فجأة على منشور كتبه علاء عبد الفتاح على مواقع التواصل، يحرض فيه ضد رجال الشرطة والجيش.
شعرت وكأن الكلمات تخترق قلبها، فهي لم تكن مجرد حروف، بل تهديد مباشر لنا جميعًا.
ابن خالي، ضابط الشرطة، يخرج كل صباح مرتديًا بدلته، مودعًا أهله بابتسامة، بينما تظل قلوبنا مليئة بالقلق والدعاء.
كنت أرى الخوف في ملامح أمي مع كل تدوينة أو فيديو جديد لعلاء، حتى صار هذا الخوف عادة يومية، وبدأت تطلب مني الاتصال بأسامة للاطمئنان عليه قبل أن ينام.
ولم تشعر أمي بذلك وحدها، فهناك آلاف الأمهات والزوجات والآباء والأخوة الذين عاشوا نفس القلق والخوف، سواء على أبنائهم أو أحبائهم في الجيش والشرطة.
كل كلمة كانت تهز قلوبهم وتزرع الرعب في بيوتهم، ويعيشون انتظارًا دائمًا لأخبار أحبائهم، خوفًا من أن تتحول كلمات منشورات علاء إلى خطر حقيقي عليهم.
كل جملة كتبها كانت تبدو لهم كرصاصة محتملة، وكل دعوة للتحريض تهديدًا لصباح جديد مليء بالأمان.
فكيف يمكن أن تُسمى هذه الكلمات «حرية رأي»؟ كلمات تتحول إلى سكاكين وتحمل خطرًا على الناس.
هل الحرية أن تُستباح دماء الأبرياء باسم الفكر؟
وبأي ذنب تعيش الأسر هذا القلق؟
وأي ثورة تجعلنا نؤذي بعضنا البعض؟
وأي فكرة تفرق بيننا بدلًا من أن تجمعنا؟
رجال الشرطة والجيش ليسوا أرقامًا في تقارير، إنهم إخوة وأبناء وآباء وجيران، وكل بيت يعرف ضابطًا خرج في الصباح ولم يعد، أو آخرًا حمل على كتفيه أمان الناس جميعًا.
لذلك، لم تكن كلمات علاء العدوانية يومًا رأيًا سياسيًا مشروعًا، بل كانت جرحًا في قلب كل أم مصرية، وفي قلب أمي، التي ظلت تبحث عن أي شعور بالطمأنينة في الأخبار وصفحات السوشيال ميديا.
ورغم تاريخ علاء المليء بالحدة، جاء قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بالإفراج عنه ليظهر جانبًا آخر لمصر، القادرة على التسامح حتى مع من أخطأوا، ويظهر وجهها الذي لا يعرف الحقد ولا الانتقام.
بالأمس، جلست أمي على نفس المقعد، الهاتف بين يديها، لكنه هذه المرة لم يزعج قلبها بعبارات الكراهية.
قرأت خبرًا مختلفًا: «الرئيس عبد الفتاح السيسي يصدر قرارًا بالعفو عن علاء عبد الفتاح»، سقطت دمعة على وجنتيها، لم تكن دمعة ضعف بل دمعة دهشة وراحة.
تذكرت كلمات علاء القاسية التي جعلت قلبها يرتجف خوفًا على ابن شقيقها، ثم التفتت إليّ وسألت: «هل يعتذر علاء لكل أم عاشت هذا الخوف؟»
هل يملك علاء الشجاعة الآن ليقف أمام المصريين ويقول كلمة تهدئ القلوب المتعبة أو تخفف ولو قليلًا عن الأمهات والآباء والزوجات الذين عاشوا الفزع؟
كلمة صادقة واحدة قد تمنحهم بعض الأمان، وتظهر أن الحرية لا تأتي على حساب دماء الأبرياء، وأن الاعتراف بالخطأ أقوى من أي تبرير أو صمت.
والاعتذار هنا ليس رفاهية، بل حد أدنى من الواجب، كلمة صادقة منه قد تمنح المجتمع شعورًا بأن الحرية تأتي مع التزام، وأن التسامح الذي منحه له الوطن يجب أن يقابله الاعتراف بالخطأ.
خاصة بعد أن دارت الأيام، وشاهد علاء عائلته بعد دخوله السجن، تعيش نفس الخوف والرعب الذي سببته منشوراته للآخرين، وأظن أنه يدرك الآن جيدا، ثقل الكلمات التي أطلقها من قبل.
ولكن، إن لم يفعل، سيظل التاريخ يذكر العفو الرئاسي، وسيخلد أيضًا صمت علاء المزري والمؤلم أمام دموع آلاف الأمهات اللواتي عاشن الخوف والقلق.
تعليقات