فاروق الدسوقي يكتب: ما تراه ليس كما يبدو.. حكاياتٌ تسكن الذاكرة
في نهاية الممر، داخل غرفة ضيّقة، يقع مكتبي، كان الزحام ذلك اليوم غير مألوفًا: موظفون، عمّال نظافة، عامل البوفيه، وحتى رئيس الهيئة نفسه، يُربّت على أكتافنا كمن يستقبل ناجين من كارثة محققة.
داخل مبنى حكومي عتيق، توقّف المصعد بين طابقين.. ظلام دامس، أنفاس متقطعة، ووجوه مذعورة تتصبب عرقًا، بدا المشهد واضحًا، كما لو أنّه مواجهة مع الموت داخل صندوق حديدي معلّق، هكذا رآه كل من سمع الحكاية، لكن الحقيقة لم تكن كما يظنّون.
![]() |
الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي |
حين وصلنا أخيرًا إلى الطابق السادس ونجونا، استقبلنا الجميع كأبطال خرجوا للتو من مجابهة الهلاك، قيلت العبارات المعتادة: «الحمد لله على السلامة»، كان المشهد إنسانيًا، صادقًا، مليئًا بالطمأنينة، لكن الحقيقة كانت شيئًا آخر تمامًا.
لقد رأوا نجاتي، بينما كنت ما أزال عالقًا في ذاكرتي، لم يكن المصعد مجرد آلة متعطّلة، بل مرآة لحياتي المعلّقة بين ماضٍ يرفض الرحيل وحاضرٍ ناقص.. مفارقة أزلية: الناس يرون ما يظهر لهم، لا ما يسكن الأعماق.
أوهمتهم ابتسامتي أن الخطر انتهى، لكن في داخلي أصوات قديمة تتردّد، وجوه تلوّح من بعيد، وذِكرى تهزّ كياني كما يهتزّ الشجرُ في مهبّ الريح، أطياف من الماضي تسكنني كما يسكن العطر ثوبًا يرفض أن يغادره.
عُدتُ إلى المكتب، فالتفّ الزملاء حولي كمن يستقبل ناجيًا من معركة خاسرة، قال أحدهم بلهجة متعاطفة: المهم أنك بخير.
ابتسمتُ وقلت: لم تُرعبني فكرة النهاية بقدر ما صدمتني زيارتها المفاجئة: ضحكتها، لمسة يدها، ذلك الهمس الذي اخترق أذني ذات يوم.
نظر إليّ زميلي بدهشة وسأل: وأين هي؟.
أشرتُ إلى قلبي وقلت: لم تكن في المصعد، لكنها هنا منذ زمن طويل.
سيظن زميلي أنني أمزح، وربما يُشكّك في سلامة عقلي، لكنه سيشمّ رائحتها في ملابسي بعد قليل، ويعرف أنني لا أكذب.. لكنه، للوهلة الأولى، لم يفهم.
أنت أيضًا لن تفهم في البداية.. تمامًا كما يحدث وأنت تشاهد حلقات مسلسل ما تراه ليس كما يبدو، الذي يُنتجه كريم أبو ذكري بالتعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، ويقدّم تجربة درامية رائعة تمزج بين التنوع والتشويق، وتغوص في أعماق النفس البشرية، وهو يروي قصص الأرواح العالقة في حياتنا، تلك المليئة بالخواطر المعطّلة التي لا يراها الآخرون، قد تكون قصة حب، جرحًا قديمًا، قرارًا لم يُتخذ، أو حلمًا لم يكتمل.
أحيانًا تكون الذكريات نوعًا فاخرًا من المخدّرات، كما قال طبيبي النفسي، نتعاطاها سنوات حتى تصبح دمًا يجري في عروقنا، ونتوهّم أننا قادرون على الشفاء بمجرد العلاج، لكن، كما هي العادة، لم ينجح الدواء كما يتّضح.
من الخارج، تبدو وجوهنا هادئة، وخطواتنا ثابتة، لكن في الداخل نحن عالقون في مصعد متوقِّف بين طابقين، بين ما كان وما لن يكون.
التقط المسلسل هذه المفارقة ببراعة، ورسم لنا حكايات صامتة تدور داخل أرواح أبطاله، وحيواتهم المتوقّفة، العالقة بين ماضٍ مثقل بالهزائم، وحاضرٍ مبتور، ومستقبلٍ يرفض الاقتراب.
وهنا تكمن عبقرية المسلسل، الذي تدور أحداثه حول فكرة أن ما نراه على السطح ليس الحقيقة الكاملة.. أبطاله يبتسمون، بينما أرواحهم مثقلة بالهزائم، ينجون من الحوادث، بينما مواقف سابقة تقتلهم ببطء، حيث ما نراه ليس أبدًا ما يَنكشف.
في النهاية،
يُقدّم لنا المسلسل دروسًا قاسية لكنها صادقة: البطولة ليست في النجاة من الزوال،
بل في الخلاص من الذاكرة، ليست القوة في التماسك الظاهري، بل في مقاومة هشاشتنا
الداخلية بلا خوف، وأن الشجاعة الحقيقية أن تجد بابًا آخر غير الذي يُغلق عليك
ماضيك، وأن تحوّل جراحك إلى حكاية تُروى، لا إلى سجنٍ تقيم فيه للأبد، وأن تجرؤ،
أخيرًا، على النزول من المصعد.
تعليقات