فاروق الدسوقي يكتب: حين تسكننا الأماكن.. لماذا تراقبنا الشوارع؟

ماذا لو استيقظتَ يومًا ووجدتَ نفسك في فناء مدرستك القديمة؟ جدرانها العالية وألوانها الزاهية تستقبلك من جديد، وصوت الجرس يعود ليرنّ في أذنك، وترى الطفل الصغير الذي كنتَه يركض نحو الفسحة، يحمل سندويتشًا بسيطًا ودفترًا مُلطَّخًا بالحبر.

أو مررتَ ببيتك القديم الذي هُدم منذ سنوات، ومع ذلك لا تلاحظ العمارة الحديثة التي حلّت مكانه، بل تراه كما كان: بابه الخشبي المتداعي، ووجوه الجيران القدامى على العتبة، ورائحة الخبز التي تخرج من النوافذ.

الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي

حتى في أحلامك لا يزورك البناء الجديد، بل المأوى المهدوم وحده هو من يطلّ عليك، كأن المنازل تعي كيف تحفر مواضعها في القلب بحيث لا تقتلعها الجرافات.

ثم تجد نفسك أمام المقهى الذي اعتدتَ أن تجلس فيه مع أصدقائك، الكراسي فارغة، لكنها ما زالت تحتفظ بأصواتكم، وقهقهاتكم تتردّد بين الطاولات الخشبية المتهالكة. لم يتبدّل المشهد كثيرًا، لكنكم تغيّرتم، وهو يدرك ذلك جيّدًا.

وهناك شارع آخر تمشي فيه دائمًا، فتشعر أنه يَسْتَوْعِب أسرارك، على ناصيته عرفتَ الحب أول مرة، وفي منتصفه بكيتَ هزيمتك، وعلى رصيفه كتبتَ في ذهنك قصيدة لم تكتمل.

وكلما عدتَ إليه، تعلم أنه يراقبك ويقول: «لقد مررتَ من هنا في كل مرحلة، ضعيفًا، وعاشقًا، وتائهًا، أنا مرآتك، مهما تظاهرتَ أنك اختلفت».

كل صباح أسير نحو مبنى عملي في الجيزة، فأشعر أنني لا أذهب إلى وظيفة بقدر ما أزور خزانة مغلقة لذكرياتي، حتى ذلك المصعد المتهالك في داخله لم يكن مجرد آلة صدئة، وإنما شاهدًا على ضحكات انطفأت سريعًا، وكلمات عابرة ما زالت تتردّد في روحي كهمس أبدي.

أما الحكايات التي تتناقلها الألسنة عن العفريت الذي يسكنه، فقد بدت لي أقرب إلى نفوس لم تفارق الموقع، وما تزال عالقة بين الطابق الخامس والسادس.

كم مرّة فكّرتُ أن أقدّم استقالتي؟ ليس لأن العمل صعب، بل لأن الحوائط هناك تفهمني أكثر مما ينبغي.

كل زاوية هناك تستحضر طيفًا من أعماقي، خطواتي المرتعشة، ارتجاف أصابعي على مقبض باب متآكل، وابتسامة عابرة تركت أثرها على كرسي خشبي لم يعد يلتفت إليه أحد، كأن المحيط يتآمر مع أفكاري ضدي، ويهمس: «لن تهرب من نفسك».

هذا اليقين يتجدّد كل لحظة أعبر فيها طريقًا قديمًا يحمل ذكرى، أشعر أن الأرض نفسها تعرفني؛ الأرصفة تحتفظ بآثار أقدامي، والأسوار تحفظ همساتي، والهواء يتواطأ مع ذاكرتي ليعيد إليّ تفاصيل لم أطلب عودتها.

إنه الحيز الذي لا نغادره حقًا، حتى وإن أوهمنا أنفسنا بالعكس، ندعه خلفنا، لكننا نترك معه أجزاء من أرواحنا عالقة في درج مكتب قديم، أو على عتبة مسكن دُكّ، أو في رائحة ممر ضيق لا يرى الشمس.

هكذا تتحوّل الزوايا، مثل الصور، إلى منصة خفية نجلس أمامها متّهمين: لماذا تركناها؟ لماذا لم ندافع عنها حين قررت الحياة أن تمحوها؟ لماذا سمحنا للسنوات أن تزيل كل شيء؟ لكنها، في النهاية، ليست محكمة بقدر ما هي ذاكرة ناعمة، تذكّرنا بأننا لم نصبح غرباء عن أنفسنا، مهما حاولنا.

وفي خاتمة المطاف، اكتشفت أن الحقيقة معكوسة: نحن لا نسكن البيوت والشوارع، بل هي التي تسكننا، نهجرها بأجسادنا، لكننا ندَعُ فيها بقايا صغيرة تظل تنادينا كلما مرّ بنا العمر.

ولهذا، كل ركنٍ أحببناه لا يموت؛ هو فقط ينتظرنا، بصبرٍ عجيب، أن نعترف به من جديد، أن نزوره بالكلمات إذا عجزنا عن زيارته بالجسد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فاروق الدسوقي يكتب: رسالة إلى نقيب الصحفيين.. لماذا لم تأتِ؟

فاروق الدسوقي يكتب: 20 دقيقة في حضرة «سوار الذهب»

فاروق الدسوقي يكتب: «حكاية ربانية» يعرفها «أبوسكينة»