فاروق الدسوقي يكتب: أخطر من المخدرات.. أنا لست عبدًا لأفكاري
قبل أعوام، دخلتُ عيادته كمن يجرّ وراءه حقيبةً مثقلةً بأيامٍ مشحونة، حملاً لا يراه أحد، لكنه يسحبني إلى الأرض كحجرٍ مربوطٍ في قدمي.
جلستُ في غرفة الانتظار أحدّق في ساعةٍ معلّقةٍ على الجدار، تتحرك عقاربها ببطء، كأنها تشاركني عبءَ روحي.
نادوا اسمي، فاتجهتُ إلى حجرة صغيرةٍ يملؤها نورٌ خافت، كان هناك مكتبٌ تتناثر فوقه أوراق، ومجسّمٌ صغيرٌ لدماغٍ بشري، وكرسيّان متقابلان، أحدهما لي، والآخر لرجلٍ بدا وكأنه يقرأ وجهي أكثر مما يطالع ملفي.

رفع الطبيب عينيه عن حافظة بياناتي، نظر إليّ مليًّا، ثم خاطبني بنبرةٍ هادئةٍ لكنها لا تحتمل الجدال: «أنتَ مدمن.. وتعاني من اكتئابٍ حاد».
اخترقتني كلماته كصفعة، فارتبكتُ وأجبتُ بسرعة: «لكني تركتُ الخمر منذ سنوات، وهجرتُ المخدرات منذ عقد».
ابتسم ابتسامةً قصيرة، كمن يملك الحقيقة منذ زمن، وقال: «أنتَ أسير التعلّق بالأماكن التي رحلتَ وما زلتَ تسكنها، بالوجوه التي مضت ولا تتركها، بالذكريات التي انتهت ولا تكفّ عن إعادة شريطها بلا نهاية».
خرجتُ من عنده أجرّ خطواتي المكبّلة، فوجدتُ صديقي ينتظرني على الرصيف، كان يعرف أنني أكره دخول مثل هذه الأماكن وحدي.
أشعل سيجارته وسألني: «ها؟ الدكتور قالك إيه؟».
أجبتُ بمرارة: «قال إني مدمن».
ضحك بصوتٍ عالٍ: «إزاي؟ ده أنتَ ما بتشربش حتى شاي ولا قهوة!».
صمتُّ قليلًا، ثم قلتُ: «مدمن على ما مضى».
هذه المرة لم يضحك، ألقى نظرةً سريعةً عليّ، وأطفأ سيجارته قبل نصفها، ثم همس: «يبقى أنا كمان مدمن».
نظرتُ إليه بدهشة، فابتسم بأسى، وتابع: «أنا كنت على وشك الانهيار بعد وفاة والدي، شهورٌ كاملة لم أغادر فيها المنزل، الناس ظنّوا أني قوي لأنني لم أبكِ أمامهم، لكني كنت أتحلّل من الداخل، لو لم ألجأ لدكتور مختص، ربما لم أكن جالسًا معك الآن».
كانت كلماته كيدٍ خفيةٍ تنتشلني من غرقٍ قديم، لم أكن وحدي، كان هناك من مرّ بنفس الجحيم وعاد.
في اللقاء التالي، استقر الرجل في المعطف الأبيض مقابلي، وتمتم بصوتٍ مطمئن: «الاعتراف بالعِلّة نصف العلاج، أما النصف الآخر فهو أن تفهم أن هذه القناعات ليست أنت، إنها أعراض، وحين تفصل نفسك عن الداء تبدأ مراحل الشفاء».
كانت كلماته مرآةً معتمةً أطلّ فيها لأول مرة، فرأيت أن ما أعانيه لم يكن ذنبًا أخلاقيًا ولا هشاشةَ إيمان كما ظننتُ طويلًا، بل مرضًا له اسمٌ وعلاج.
حينها، أدركتُ أن أخطر ما في الاضطراب النفسي ليس الألم بحد ذاته، بل وصمة المجتمع وما يرافقها من لومٍ ورفض.
خرجتُ بعدها والتقيتُ رفيقي في المقهى، قصصتُ عليه ما ذكره المعالج، ابتسم وأفصح: «شايف؟ كنت فاكر نفسك ضعيف، لكنك مجرد مريض محتاج علاج، الفرق كبير، وأنا واثق إنك هتقوم».
لذلك أتعجب ـ بل أحتجّ ـ على مَن يسرعون في تكفير أو إدانة مَن مرّت في رأسه هواجس الانتحار، دون أن يسألوا عن الأسباب أو يتعاملوا مع الحالة بعلمٍ ورحمة.
إن التفكير في الموت ليس إخلاصًا لشرٍّ داخلي، بل غالبًا صرخةٌ يائسةٌ لِمَن فقد وسائل الرؤية والراحة، ومَن يستعجلون الإدانة قد يضيعون آخر فرصة لإنقاذ إنسان.
ومنذ ذلك اليوم بدأتُ الرحلة، دواءٌ أتناولُه في موعده، تمارينُ تنفّس أمارسها في غرفتي، وضحكةٌ صغيرةٌ أُجرّبها مع صاحبي وسط حكايةٍ عادية.
ومع كل خطوة كنتُ أتعلم شيئًا جديدًا، أنني لستُ عبدًا لأفكاري، وأن الأوهام السلبية حين تدخل رأسي يمكنني أن أفتح لها الباب وأطردها قبل أن تتحول إلى قيد، وأن الصور القديمة حين تطلّ عليّ يمكنني أن أضعها في مكانها: خلفي، لا أمامي.
علّمتني تجربتي الشخصية شيئًا بسيطًا، لكنه عظيم، أن الشفاء يبدأ عندما نُسمّي الألم وننزع عنه عباءة العار.
تعلمتُ أن أبوح لنفسي: «هذه خاطرة، ليست حقيقة»، وأجعلها تمرّ بلا أن تجذبني.
وأستطيع القول بصراحة: خرجتُ من التجربة أشدَّ، فلديّ خطة، ودعم، وأتمكّن من طرد الخواطر الانهزامية من رأسي كمن يفتح نافذةً ليُخرج الدخان.
رسالتي لكم اليوم ليست درسًا دينيًا صارمًا، ولا محاضرةً طبيةً جامدة، بل دعوةٌ إنسانية، أن ننزع عن المعاناة النفسية ثوبَ الخزي، وأن نمنح مَن يعانيها فرصةَ العلاج والمرافقة بلا خجلٍ ولا عتاب، فالعقل يمرض كما القلب، والروح تحتاج دواءً وطمأنينةً كما يتعطش الجسد إلى شفاء، وما بين الدواء والصبر والرحمة تستعيد الأيام لونها.
والآن.. هل انتهت معركة الاكتئاب؟
لا، لكنني أستطيع أن أخوضها، وأنا أقوى.
تعليقات