فاروق الدسوقي يكتب: «كارثة طبيعية».. كيف أعاد سلام وأبو رية اكتشاف نفسيهما؟

في عرض يعيد تعريف الدراما الاجتماعية، يقدم «كارثة طبيعية» على منصة Watch It تجربة إنسانية دقيقة لا تشبه الأعمال التلفزيونية المعتادة، فالعمل ينطلق من لحظة صادمة، همسة قدر، خبر حمل مفاجئ بخمسة توائم، كأن الحياة قررت أن تختبر هشاشة بيت مصري بسيط، وأن تضع على طاولة أسرة صغيرة وزنا يكفي لتصدعها.

يقدم الفنان محمد سلام في المسلسل واحدا من أهم وأنقى أدواره، يبتعد عن الكوميديا الخفيفة ليقترب من منطقة إنسانية أكثر عمقا، رجل يحاول أن يبدو ثابتا بينما الأرض تتحرك تحت قدميه.

يدخل «سلام» هذه الحكاية لا كممثل، وإنما كرجل يشبه ملايين الرجال الذين يحاولون أن يبدوا أقوياء بينما أصوات ارتطام الأسئلة تتردد في صدورهم.

ضحكة مألوفة، لكنها هذه المرة ليست خفة دم، بل قناع هش يختبئ تحته خوف أب يكتشف أن المسؤولية أكبر من حلمه، وأثقل من جيبه.

يعتمد أداؤه على الارتباك الصادق عند مواجهة المسؤولية، ارتعاش صوته وهو يخشى أن يكون غير قادر على التحمل، الضحك الذي يخفي القلق، واللغة الجسدية التي تنقل خوفا لا يقال لكنه يرى بسهولة. 

كلها تفاصيل تشبه حياة أي أب يكتشف أن الحب أكبر من خوفه، وأن الحياة أوسع من قدرته على السيطرة، هنا لا بطولة مصطنعة ولا مآس منمقة، لكن إنسان يواجه معجزات الحياة بصمت وصدق.

إلى جانبه، تبرز الفنانة جهاد حسام الدين في دور زوجته «شروق» بأداء حقيقي، خال من المبالغة، يعكس مزيجا من القوة والارتباك اللذين يمثلان جوهر الأم العاملة في مجتمع يثقل كاهل النساء قبل أن يمنحهن الوقت للتنفس.

ليست مجرد أم أو زوجة، إنها مركز البيت الذي يحتضن الفرح والخوف معا، نظراتها تختلط فيها الدهشة مع القلق، والحزن مع القوة، تحاول أن تصمد لكنها ترتجف داخليا، وتحمل هذا الارتجاف كجزء من مسؤوليتها.

أما المفاجأة الأجمل جاءت من الفنان الكبير كمال أبو رية، الرجل الذي اعتدناه في الأدوار الهادئة الرزينة، ليعود بوجه كوميدي ناضج يشبه ابتسامة أب يعرف سر النجاة، لكنه لا يقوله. 

وجوده في المسلسل يشبه يدا تربت على الكتف قبل أن ينهار صاحبها، خفيف الحضور دون تسطيح، عميق دون ادعاء، مضحك دون ابتذال، فقد أعاد الفنان القدير اكتشاف نفسه أمام الجمهور من جديد.

استطاع «أبو رية» عبر دوره أن يحقق أحد أكثر التحولات الفنية لفتا للانتباه هذا العام، احتفى الجمهور به بشكل لافت على منصات التواصل الاجتماعي، واعتبر ظهوره «عودة ذهبية» لقدرة كوميدية راقية ظلت كامنة لسنوات، فالرجل الذي عرفوه سنوات طويلة قادر على إعادة تعريف الكوميديا نفسها بطريقة ناضجة، لطيفة، ومحكمة.

لذلك بدا حضوره أشبه بلمسة إنسانية لا تفسد حرارة المشاعر، بل توازنها، كأن المشاهدين وجدوا فيه حنان الأب القديم، ومرح الرجل الحكيم، وخفة اليد التي تعرف متى تسندك قبل أن تقع.. والحق أقول: إن «أبو رية» فنان حقيقي كان ينتظر دورا يعيده ليقف في المكان الذي لم يغادره داخل القلوب.

من خلال سرده الهادئ ومشاهده، يبتعد «كارثة طبيعية» عن التجميل المفرط للمعاناة، ويقدم صورة صادقة للطبقة المتوسطة، تلك المساحة الرمادية التي لا تقع في الفقر ولا تعيش الرفاهية، لكنها تظل معلقة في المنتصف، تقاوم ما لا يقاوم وتحاول أن تبقى واقفة.

ورغم أن المسلسل يحمل طابعا كوميديا، إلا أن الضحك فيه ليس ترفا، إنما ضرورة إنسانية، كمتنفس صغير يبقي الشخصيات قابلة للاستمرار.

يقدم العمل في مجمله رسالة هادئة مفادها أن «الكارثة» ليست دائما ضربة قاضية، لكنها قد تكون بابا يكتشف الإنسان عبره قوته ومرونته وقدرته على التكيف، وأن الأسرة بكل مخاوفها وتناقضاتها، هي آخر خطوط الدفاع أمام قسوة العالم.

وبهذا الأداء المتقن، والكتابة المتوازنة للمؤلف أحمد عاطف فياض، ينجح «كارثة طبيعية» في أن يكون عملا يلمس القلب قبل العين، ويترك أثرا يبقى حتى بعد انتهاء كل حلقاته.

إنه ليس مجرد حكاية عن سبعة توائم أو خبر مفاجئ، لكنه تجربة إنسانية متكاملة عن الأبوة، والأمومة، والبيت، وعن حضور فنانين أعادوا لنا معنى الضحك، والحنان، والصدق الفني.

وفي النهاية، يتركنا مسلسل «كارثة طبيعية» الذي تنتجه الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية مع رسالة خفية، وهي أن الإنسان قادر على النجاة حتى وهو يرتجف، على الضحك حتى وهو محطم، على الحب حتى عندما يكون كل شيء حوله على حافة الانهيار، وهذا في الحقيقة، جوهر الفن عندما يكون صادقا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فاروق الدسوقي يكتب: رسالة إلى نقيب الصحفيين.. لماذا لم تأتِ؟

فاروق الدسوقي يكتب: 20 دقيقة في حضرة «سوار الذهب»

فاروق الدسوقي يكتب: «حكاية ربانية» يعرفها «أبوسكينة»