فاروق الدسوقي يكتب: حين تنفس الحجر.. مصر تبني مجدها في المتحف الكبير
ماذا لو لم تُشرِع مصر يومًا هذا الصرح العظيم؟
وبقيت الصناديق موصدة في ظلمة النسيان، يحرسها الغبار، وتغفو داخلها المنحوتات كأحلامٍ حجرية تنتظر من يوقظها إلى الضوء.
تخيل أن الحجارة التي نُحِتت لتتكلم، صارت تبتلع صمتها، وأن الوجوه التي خُلقت لتُبصر، حُكم عليها بالاختفاء الأبدي، وأن مصر لم ترفع الغطاء عن ماضيها، وتركت حضارتها في الظل، كأنها اختارت أن تمضي بلا ذاكرة، وتتوارى عن وجهها الأصدق والأقدم.
سيكبر الأطفال وهم لا يعرفون من هي نفرتيتي، ولا لماذا كان خوفو يحدّق في السماء منذ آلاف السنين.
سيتحوّل التاريخ إلى أسطورة بلا يقين، والهوية إلى حكاية تُروى بلسان غريب.
أتدرك كيف يبدو وطن نسي جذوره؟
وكيف يعيش شعب فقد ملامحه الأولى، تلك التي صاغها الطين والنيل والخلود؟
تكمن عبقريتنا نحن المصريين في أننا اصطففنا إلى جانب الذاكرة الجمعية، وأعدنا فتح الصناديق أخيرًا، فتدفّق الضوء على الوجوه المنحوتة التي انتظرت آلاف السنين، فأفاضت الحجارة أنفاسها الأولى، واستيقظت الملامح القديمة من سباتها الطويل.
إن افتتاح المتحف لا يُختزَل في احتفال أثري، بل هو فعل وعيٍ يعلن أننا متمسكون بجذورنا وهويتنا.
فذلك البناء ليس مجرد هيكل من الزجاج والرخام، بل مرآة لروح الأمة.
كل تمثال بداخله ليس جمادًا، بل قلب ينبض من زمن بعيد، وكل نقش هو كلمة من جملة بدأها أجدادنا منذ فجر التاريخ، وجاء هذا الجيل ليُكملها.
لقد عاد صوت مصر القديم يتحدث، ذلك الذي صاغه شاعر النيل حافظ إبراهيم حين أنطقها بالكبرياء: «وقف الخلق ينظرون جميعًا.. كيف أبني قواعد المجد وحدي».
وها هي اليوم تقف من جديد، تُكمِل ما بدأته، وتقول بصوت الزمان والحجر: «وبناة الأهرام في سالف الدهر.. كفوني الكلام عند التحدي».
كأن المتحف بأسره قصيدة مكتوبة بالحجر، تتلوها الجدران حين يعجز اللسان عن الكلام.
وحين تخطو بين أروقته، تكتشف أن الماضي لم يتركك وراءه، بل يمشي معك بخطى الزمن نفسه، يوقظ فيك الإحساس بأنك امتداد لزمن لا يزول، كأن النقوش تهمس بروح حافظ إبراهيم: «أنا تاج العلاء في مفرق الشرق.. ودراته فرائد عقدي».
أن تفتح مصر نوافذها على فجرها الأول في زمن السرعة والسطحية، يعني أنها تؤمن بأن الزمن ليس ومضة، وإنما امتداد، وأنها ترفض أن تُختزَل هويتها في لحظة عابرة أو منشور مؤقت.
يُذكّرنا المتحف المصري الكبير بأننا لسنا أبناء المصادفة، ولا أحفاد العدم، بل سلالة من الحالمين الذين قاوموا الفناء بالحجر والرمز والنقش.
وحين نقف أمام هذا المعلم الفريد، لا نرى التماثيل وحدها، بل نرى وجوهنا القديمة تلمع من بين العصور، ونلمح جذورنا العميقة الممتدة في الزمن، تلك التي لم تنقطع رغم كل ما تغيّر.
«إنَّ مَجدي في الأوَّلياتِ عَريقٌ، مَن لَهُ مِثلَ أوَّليّاتي وَمَجدي؟».. بهذا المعنى، يصبح افتتاح المتحف لحظة وعيٍ جمعي، تعيد فيها مصر تعريف ذاتها أمام العالم، وتقول كما قالت من قبل، ولكن بصوت التاريخ هذه المرة: «أنا إن قدر الإله مماتي.. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي».
نحن أبناء النيل نعرف حقيقتنا الكاملة، أننا لسنا ورثة حجرٍ صامت، بل أبناء روحٍ تحدّت الموت لتبقى.
لم نُخلق لنمرّ في التاريخ مرور العابرين، بل لنصنع فيه ما يدهش الكون ويلهم العالم، منذ بدء الحضارة وحتى الآن.
كل مصري يشعر بشيء مختلف، كأنه استعاد فجأة إحساس الانتماء إلى سلالة بنت المجد بالحجر.
نعم، نحن أبناء حضارة عريقة، لكنها ما زالت شابة في عروقنا، نابضة في وجداننا، توقظ فينا، كلما تأملنا تلك الوجوه المنحوتة، يقينًا بأن المجد لا يُورَث، بل يُستعاد.

تعليقات