فاروق الدسوقي يكتب: كيف تنجو مصر كل مرة؟

بعض العبارات لا تفهم في لحظتها، تحتاج زمنا وامتحانا لتكشف معناها الحقيقي، وربما الآن فقط، بعد ما مرت به مصر في السنوات الأخيرة، بدأ كثير من المصريين يدركون لماذا كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يكرر الجملة نفسها في كل مناسبة: «نحن نتعامل بشرف».

الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي
في عالم تتغير فيه المواقف بسرعة، وتدار فيه الصفقات من خلف الأبواب المغلقة، ويصبح المكسب فيه أهم من المبدأ، بدت هذه الجملة غريبة حين قيلت، كأنها لا تنتمي إلى لغة السياسة المعروفة، لم يقلها الرئيس السيسي ليجمل صورة، أو ليصنع خطابا، لكنه قالها لأنه يعرف أن سقوط الدول يبدأ من اللحظة التي تبيع فيها قيمها لتربح معركة قصيرة.

قالها بوضوح لا يحتاج إلى شرح: «لازم تكونوا واثقين في الله، وفي أنفسكم، لأننا لا نظلم ولا نفتري ولا نتآمر ولا نخون.. نتعامل بشرف في زمن عز فيه الشرف، فلازم النجاح والنصر يكون حليفنا في كل القضايا».

هذه الكلمات لم تكن شعارات، كانت يقينا، وطريقة تفكير، وخريطة طريق لدولة تريد أن تبقى واقفة دون أن تتخلى عن نفسها في الطريق.

من اعتاد أن ينتصر بالخديعة لا يفهم كيف يمكن لأحد أن ينتصر بالوضوح، ومن عاش على الفوضى لا يستوعب كيف يستعيد وطن هدوءه دون أن يفقد قوته، وكلما ازداد ثبات مصر، ارتفع صراخ أعدائها.

كان يمكن لمصر أن تحسب موقفها في غزة بمنطق الربح والخسارة، أن تغلق عيونها عن الدم، أن تساوم أو تصمت أو تقايض أو تشارك، لكنها لم تفعل، واختارت أن تقف حيث تعرف نفسها، رفضت التهجير، وأن يكون المعبر بابا للبيع، وأن تتحول المأساة إلى صفقة.

ظنوا أنها ستنحني، فإذا بها تتماسك، وأنها ستتفتت، فإذا بها تلملم جراحها وتنهض، وأنها انتهت، لكنهم نسوا أن مصر لا تعرف معنى النهاية.

من كان يتوقع أن البلد التي وقفت يوما على حافة العتمة والإرهاب، ستصبح بعد سنوات قليلة أرضا يجتمع عليها قادة العالم للحديث عن السلام في شرم الشيخ.

ومن كان يظن أن دولة أنهكتها العواصف حولها ستعود لتقدم للعالم المتحف المصري الكبير كمن يقدم ذاكرته من جديد، ولكن بعيون تعرف أن الحضارة ليست ثوبا نرتديه للماضي، وإنما حمل نرفعه للمستقبل.

هناك، أمام أحد التماثيل العظيمة، وقف رجل وامرأة بملابس بسيطة، لم يكونا سائحين، كانا فقط كما نعرفهما جميعا: «مصريين».

نظر الرجل كما ينظر المرء إلى أصله، ووقفت المرأة جواره بصمت مطمئن، كأنها تعرف أن هذا المكان لم يبن لينبهر به الغرباء، بل ليقول لأبنائه: «هذا أنتم»، وفي تلك اللحظة نفهم أن الشرف سلوك أمة كاملة وهي تقف أمام تاريخها دون أن تنحني.

هذه ليست إنجازات عابرة، لكنها دلائل تقول إن مصر لا تترك دورها، ولا تباع هويتها، ولا تستسلم مهما اشتد الطريق، وأن هذه البلاد لم تبق لأنها الأقوى دائما، لكن لأنها لم تسمح لبيتها أن ينهدم من الداخل، وشعبها مهما اختلف يعرف الوقت الذي يعود فيه إلى قلب رجل واحد.

هذا ليس شرحا سياسيا، لكنه سر أقدم من التاريخ، كتبه النيل في سكونه، والصحراء في صلابتها، والسماء حين قالت: «ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين».

يسألون: كيف تنجو مصر كل مرة؟

كيف لا تسقط رغم أن البعض ينتظر سقوطها؟

العدو لا يفهم أن تكون قويا دون أن تكون خبيثا، ولا يصدق أن تقوم دولة على الوضوح في زمن التعتيم، ولا يعي أن أمة يمكنها أن تنهض بلا دم يراق أو صفقات في الظلام، لذلك كلما خطت مصر خطوة إلى الأمام، هاج البعض، ليس لأنها أخطأت، لكن لأنها لم تقع حيث تمنوا.

مصر لن تهزم.

ولن تركع.

ولن تبتلع الطعم.

لم تختر الطريق السهل، بل اختارت الطريق الذي يشبهها: مستقيمة، واضحة، ثابتة.

تسير وحدها إن لزم، وبصمت إذا احتاجت، دون أن تحني رأسها أو تخون.

 لأنها دولة يحميها ويحبها الله.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فاروق الدسوقي يكتب: رسالة إلى نقيب الصحفيين.. لماذا لم تأتِ؟

فاروق الدسوقي يكتب: 20 دقيقة في حضرة «سوار الذهب»

فاروق الدسوقي يكتب: «حكاية ربانية» يعرفها «أبوسكينة»