تنويه: ما ستقرأه ليس مشهدا من أفلام يوسف شاهين، التي كثيرا ما أثارت الجدل، ولا صفحة من روايات هربرت جورج ويلز الخيالية، بل هو مشهد حقيقي من واقع أكثر عبثا من الحلم، وأكثر مرارة من الكابوس.
الزمان: 31 يوليو 2025.
المكان: تل أبيب - أمام السفارة المصرية.
الحدث: جماعة الإخوان تتظاهر ضد القاهرة.
الشعارات: «الله أكبر.. الموت لمصر!».
العَلم المرفوع: إسرائيلي.
![]() |
الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي |
وقفت أمام هذا المشهد كأن الزمن توقف.. لم أصرخ، لم أناقش، لم ألعن.. فقط، تمتمت - في داخلي - كمن وجد نفسه في كابوس بلا نهاية: «أنا مش فاهم حاجة!».. كيف أصبحت قاهرة النيل والأزهر والشهداء «عدوًا»؟.. وتل أبيب قلب الاحتلال «ساحة جهاد»؟.
من رسم هذا المشهد المشوه؟ من كتب هذا السيناريو الذي يجعل العدو حليفا، والوطن خيانة، والموت لمصر عبادة؟.. أنا مجرد مواطن مصري، لا أملك إلا السؤال: «كيف وصلنا إلى هنا»؟.
في زاوية مسجد مهجور من الوجدان، تحت إضاءة خافتة، يجلس طفل في صمت، عيناه معلقتان بشيخ يتحدث بشغف، لم تكن البداية انفجارا ولا تحريضا، كانت جملة خبيثة: «وما الوطن إلا حفنة تراب عفن».
لم يُطلب من الصغير القتل، بل زُرع فيه فكرة.. ناعمة، خفية، كأنها نبض قلبه، تسللت إليه عبر درس ديني، نشيد حماسي، مشهد درامي، وضحكة في لعبة، استيقظ الطفل بعد سنوات وهو يردد بكل ثقة: «الخلافة هي الحل».. «الديمقراطية كفر.. إن لم تأت بنا».
في الخلفية، الضوء يفضح وجوها لا نراها، تتحرك في الظلال، تنسّق، وتخطط.. إنهم مهندسو الوعي، لا يزرعون قنابل، بل أفكارا بسيطة، لكنها مرعبة، تتسلل إلى العقل فتتجذر، تصبح جزءا من الهوية، بل من الإيمان.. دخلوا من أبواب الدين والحنين، من الإعلام، ومن الألعاب، من الأناشيد التي تشعل الروح، وخطابٌ ديني يُربّي الولاءً للخلافة.. لا للوطن.
يكبر الطفل، ويصبح شابًا يحمل في صدره قنبلة ليست من TNT، بل من كلمات تقول له:
«نحن جيل النصر»
«الجهاد فريضة غائبة»
«الأنظمة كافرة»
«طظ في مصر»
يظن أن هذه الأفكار له، من صنع عقله، وحين يشكك أحدهم فيها، يشعر كأن أحدا ينتزع روحه.. إنها ليست أفكارا، إنما هوية بديلة، زرعت فيه بدهاء، حتى أنه لم يعد يعرف الفرق بين الإيمان، والبرمجة.
لقد نجحت جماعة الإخوان الإرهابية في أمر خطير، لم تقنع شبابها، بل أعادت تشكيلهم.. من وعظ إلى تطرف، من دعوة إلى تكفير، ومن حلم بالتغيير إلى مشهدٍ ينتهي بحزام ناسف.. الشاب الذي كان يظن نفسه مصلحا.. أصبح قاتلا، ومن ظن أنه يدافع عن الدين، ذبح مسلما باسم العقيدة.
لم يكن تحولا مفاجئا، بل سلسلة محكمة: تبدأ من التعليم المشوّه، تمرّ بإعلام مشبوه، وتنتهي بشباب تائه يبحث عن انتماء، فيجد «الخلافة» تنتظره بحفاوة.
على مدار أكثر من عقد، لم تتغير منطقتنا بالرصاص وحده، بل بالأفكار التي حملت على ظهور الثورات، ورافقت الربيع العربي كظله.. في كل شارع تظاهرنا فيه، كانت هناك أياد خفية كتبت اللافتات، وحددت الاتجاهات، ورسمت النهايات.
لم تزرع جماعة الإخوان الكراهية فقط، بل غرست فكرة بديلة عن الوطن، وعن الدين، وعن الإنسان، زرعت هوية أخرى، عقلا جديدا، ومنطقا مقلوبا.. حين تظن أن القتل طاعة، وأن الخيانة شرف، وأن الحياة بلا راية سوداء جريمة.
تحت شعارات براقة مثل «النهضة»، «الخلافة»، «الدولة الإسلامية»، تسللت أفكار سامة إلى العقول، حتى اقتنع كثيرون أنهم أصحابها.. لكن الحقيقة: لم يكونوا أكثر من بيئة خصبة للفكرة المزروعة.
واليوم، بعد الخراب والدم، بعد العواصم المحترقة، وبعد ألف خيبة، تتجلى الحقيقة: لقد هزمنا ليس فقط في المعارك، بل في الوعي.. وكانت النتيجة: آلاف يرفعون شعارات لم يفكروا يوما في أصولها، ويؤمنون بمفاهيم لا يعرفون من كتبها لهم.. زرعت الجماعة فيهم أفكار ترتدي زي «الدين»، لكنها تخدم التنظيم، لا السماء.
الآن، تتضح الفكرة، بعد ما شاهدناه أمام السفارة المصرية في تل أبيب، أو جاء على لسان الإخواني محمد إلهامي الذي قال: «إذا احتلت إسرائيل سيناء سيكون هذا نصرا لنا!».. لنعرف: كيف وصلنا إلى هذا الحد من العبث؟.
إرسال تعليق