فاروق الدسوقي يكتب: تيمور تيمور.. العدسة التي خلدت أجمل لقطة
أحيانًا يترك الفنان وراءه مئات المشاهد التي خطّها بموهبته، لكن القدر يصرّ على أن يكتب له مشهده الأخير بنفسه، بلا كاميرا أو نص أو أضواء، ليظل الحدث الأكثر صدقًا وخلودًا.. بطولة صامتة لا تُعرض على الشاشة، لكنها تُحفر في الذاكرة إلى الأبد.
لم يكن الفنان «تيمور تيمور»، مدير التصوير الراحل، يعلم أنه واحدٌ من هؤلاء الذين اختارهم القدر لتقديم أعظم الأمثلة في التضحية والوفاء.
لم يعرف أنه سيصبح بطلًا لقصة جديدة نرويها لأطفالنا عن «أب عظيم» اختار ألا يترك يد طفله، حتى لو كلفه ذلك حياته.
لم يدرك أن أجمل لقطة يصوِّرها في حياته كلها، لن تكون من خلف الكاميرا، بل من أمامها، وهو يصارع الأمواج محاولًا إنقاذ ابنه من الغرق.
![]() |
الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي |
بالأمس، دون أن يعلم أنها لحظاته الأخيرة، وقف «تيمور» يصنع آخر مشاهده، دون كاميرا «لأول مرة»، فكانت عيناه هما العدسة، وقلبه هو الفيلم.
كانت السماء صافية فوق رأس الحكمة، وشمس أغسطس تُلقي بوهجها على مياه البحر كأنها تُغري الجميع بالغوص في حضنه الأزرق.
![]() |
مدير التصوير الراحل تيمور تيمور ونجله |
على الشاطئ، كان الناس يضحكون، والأطفال يركضون ويلعبون على الرمال، والبحر يومض كأنه يحتفي بالصيف، ولا أحد يتوقع أن القدر يخبئ مشهدًا لا يمكن حتى لأمهر المصورين أن يرسمه.
دقائق قليلة فقط، ثم انقلب المشهد السابق إلى كارثة، صرخة صغيرة لابنه تقطع اللقطة: «الحقني يا بابا»، فيسيطر القلق على الجميع، إلا «تيمور»؛ يلتفت بسرعة، يراه يتخبط في المياه، يركض نحوه دون أن يفكر، ويناديه: «متخافش يا حبيبي.. أنا جاي».
دقائق أخرى من الرعب والفزع يعيشها كل من على الشاطئ، أما «تيمور» فيصارع الأمواج وحيدا محاولًا الوصول إلى الصغير، تنقطع أنفاسه لكنه يكمل، يقترب منه، يمد ذراعه، يلمس أطراف أصابعه، ويدفعه نحو الشاطئ بكل ما تبقى فيه من قوة، كأنه يسلمه للحياة من جديد.
على الشاطئ، تتحول الضحكات إلى ذعر، ويُصاب الأطفال بالهلع، فيسرعون إلى أحضان أمهاتهم وآبائهم، يصرخون من هول الصدمة.. أما «تيمور» فيترك نفسه للأمواج لتبتلعه.. مكتفيًا بنظرة أخيرة إلى طفله الصغير، وهو ينجو بعيدًا عن المياه.
قضى «تيمور» سنوات خلف العدسات بحثًا عن مشهد صادق، وحين وجده هذه المرة لم يكن ممسكًا بكاميرا، وإنما ممسكًا بالحياة نفسها، يحاول أن ينتشل ابنه من موتٍ محقق.
حين قرأت خبر وفاة «تيمور» غرقا بعد إنقاذ ابنه، تذكرت عندما رُزقت بطفلي الأول، قبل سنوات طويلة، وشعرت - وما زلت - صدقًا ويقينًا أن الإنسان الوحيد الذي يمكن أن أضحي بحياتي من أجله هو ذلك المولود الذي وضعه الطبيب بين يدي «أمانة» يجب الحفاظ عليها حتى لو كلفني ذلك حياتي.
ابتلع الموج جسد «تيمور»، ونجا ابنه، الذي سيظل شاهدًا على بطولة والده، التي ستبقى في ذاكرته حتى يكبر وهو يتذكر اليد التي لم تتركه.
نعم، لم يكن هذا المشهد مصوَّرًا، ولم يكن بطولة على الشاشة، لكنه صار محفورا في الروح.
رحل «تيمور» في مشهد هو أقوى من أي لقطة صوَّرها، وأُغلقت عدسته التي خلدت أجمل لقطة في حياتنا.. وعنوانها: «شهيد الأبوة».
تعليقات