فاروق الدسوقي يكتب: إذا منحك الله الرفق واللين.. فأنت فرانك كابريو

لماذا اندهشنا حين رأينا قلوب الناس تنهال بالدعاء للقاضي فرانك كابريو، المعروف بالقاضي الرحيم، عقب وفاته، وكأنه وليٌّ صالح أو شيخٌ جليل؟

كيف تحوّلت جلساته القضائية إلى رسائلَ إنسانيةٍ عابرةٍ للحدود، يتداولها الناس في الشرق والغرب، ويدعون له كما لو كان إمامًا أو عالِمَ دين؟

أكان سرّه في تلك الابتسامة التي سجّلتها الكاميرات، وهو يبحث عن عذرٍ للرحمة أكثرَ ممّا يبحث عن مبرّرٍ للعقوبة؟

«إذا منحك الله الرفق واللين، فقد مُنحت كلَّ شيء».. عبارةٌ تختصر حياة القاضي الراحل فرانك كابريو، الذي جعل من العدالة وجهًا إنسانيًّا يليق بالبشر.

لقد عاش الرجلُ عمره كلَّه يُعامل الناس بما يليق بإنسانيّتهم؛ لم يكن خطيبًا يعظ من فوق المنابر، بل قاضيًا يرى في كل متهم حكايةً تستحق أن تُسمع قبل أن تُدان.

ابحث عن اسمه على «جوجل»، وستجد صورته تتصدّر النتائج بوصفه «أفضل قاضٍ في العالم»، يتابعه أكثر من 26 مليون شخص عبر منصّاته على مواقع التواصل، وقد حصدت مقاطع جلساته أكثر من 10 مليارات مشاهدة حول العالم.

الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي

المُدهش أنّ إنسانيته عبرت القارات من أمريكا إلى الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وأوروبا، واجتمع الجميع على الدعاء له، وكأنّ الرحمة التي وزّعها في قاعته الصغيرة اتّسعت لتشمل الكرة الأرضية بأكملها.

رحل فرانك كابريو جسدًا، بعد أن تحوّل إلى رمزٍ للإنسانية في عيون الملايين، تاركًا للعالم درسًا خالدًا: أنّ الرحمة هي أسمى ما يُخلّد الإنسان، وأنّ الإنسانية حين تُمارَس بصدق تعبر الحدود والجغرافيا وتتخطى اللغات والاختلافات لتستقر في جوهر كلّ إنسان.

نعم، غادر «كابريو» عالمنا، لكنه علّمنا أنّ الإنسان يمكن أن يُخلَّد بالرحمة أكثر ممّا يُخلَّد بالسلطة أو الشهرة، وأنّ الكاميرا التي وثّقت لحظاته العفوية لم تُصوّر قاضيًا يخفّف العقوبات فحسب، بل إنسانًا أيقظ فينا ما كدنا ننساه: أنّ الرحمة أوسع من كلّ شيء.

كان كابريو استثناءً نادرًا يعيد إلى الأذهان حقيقةً بسيطة ضاعت في زحمة الشعارات: أنّ القيم الكبرى لا تحتاج إلى دينٍ كي تتجلّى، بل إنّ الدين نفسه ما جاء إلا ليذكّر الإنسان بما هو مغروس فيه أصلًا: إنسانيّته.

القاضي الأمريكي الرحيم فرانك كابريو

لم تكن قاعته القضائية مكانًا يخشاه الناس، بل مساحةً يُصغي فيها القاضي للمتّهمين قبل أن يحكم عليهم: عجائزُ يشكون ضيق العيش، أمهاتٌ لا يملكن ثمن الغرامة، شبابٌ ضائعون بين الدراسة والعمل، وفقراءُ لم يسعفهم الحظّ؛ الجميع وجد عنده أذنًا صاغية وقلبًا أوسع من نصوص القانون.

لم يُلغِ كابريو القوانين، لكنّه أعاد إليها روحها، فرآه الناسُ أبًا حنونًا، وقاضيًا عادلًا، وإنسانًا اختار أن يمارس سلطته بوصفها فرصةً للعطاء.

والحقيقة أنّ اندهاشنا من إنسانيته يجب أن يقودنا إلى أن نجرّب نحن أيضًا كيف نمارس الرحمة في حياتنا، لا أن نكتفي بالتصفيق له، بل أن نجرّب أن نعيد اكتشاف إنسانيّتنا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فاروق الدسوقي يكتب: رسالة إلى نقيب الصحفيين.. لماذا لم تأتِ؟

فاروق الدسوقي يكتب: 20 دقيقة في حضرة «سوار الذهب»

فاروق الدسوقي يكتب: «حكاية ربانية» يعرفها «أبوسكينة»