فاروق الدسوقي يكتب: آية بين نور دولة التلاوة وظلام الإخوان
أتعجب - ولا أملّ من العجب - من قدرة البعض على كراهية النور، ليس لأنهم يخافونه، لكن لأن حضوره يعري عتمتهم، فكلما أضاءت مصر زاوية، هرعوا من مخابئهم، كأن الإنجاز صفعة لا يحتملون صوتها.
أندهش من أولئك الذين، كلما ارتفع صوت الوطن وامتلأت الوجوه بالسرور، خرجوا من ثقوب الظلام ليطفئوا وهج المناسبة، لا يحتملون أن يحتفل الناس بنجاح، أو أن تلمع «درة الشرق» في لحظة انتصار، كأن الفرح عندهم خطيئة، وأم الدنيا خصم يجب هدمه، وأي ابتسامة على وجه مصري تهديد يزلزل عروش أفكارهم.

كل تفوق يتحول في أعينهم إلى مؤامرة، وكل احتفال يُعاد تفسيره على أنه فتنة، وكأنهم في حرب أبدية مع فكرة أن تكون الدولة أهم من الجماعة، وأسمى من المرشد، وأكبر من الشعارات.
الليلة لم يكن المشهد أكثر من برنامج تلاوة، قدمته وزارة الأوقاف بالتعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، أصوات شابة تقرأ كلام الله كما يليق بكتاب أنزل هدى ورحمة، مجرد احتفاء خالص، صوت نقي، مقامات رصينة، وتاريخ يعرف كيف يرفع «الفرقان» بلا توظيف ولا ضجيج.
لم تكن الأمسية مجرد مسابقة، إنما كانت استدعاء لمدرسة كاملة لم تُنجب أصواتا بقدر ما أنجبت طريقة في الشعور بالله، المنشاوي الذي يبكي القلوب، والحصري الذي يعلّمها، وعبدالباسط الذي يُبهجها، بدا أن المحروسة تقول من خلال هذا المشروع: «هذا إرثي، وهذا صوتي وهذا وجهي الحقيقي».
لكنهم فجأة، ظهروا، لا خوفا، ولا ارتباكا، إنما وفاء لعادتهم في تشويه أي فوز، وإطفاء أي لحظة سطوع، ومحاربة كل مشهد يعيد للمواطنين ثقتهم بأنفسهم.
الإخوان لا يخافون من برنامج ديني، لكنهم يهابون من الحقيقة التي لا يريدون للناس أن يتذكروها، أن أرض الكنانة لا تحتاج إلى وسطاء بين كتاب الله وأهله، ولا إلى وصاية على تدينها، ولا إلى من يهيمن على الصوت أو المعنى أو الفهم، وأن هذه البلاد قادرة وحدها على الجمع بين الذكر الحكيم والتنوير، بين التدين والمعرفة، بين الصوت الجميل والعقل الحر.
لم تكن الإعلامية آية عبد الرحمن هي القضية، لكن ظهورها كان العلامة التي كشفت طبيعة الصراع بين نور دولة تحفظ مكانتها، وظلام جماعة لا تقوى على العيش إلا خلف جدران الولاية.
وقفت «آية» بثبات، وهدوء وثقة، تقدم برنامجا روحانيا دون خضوع، دون تكلف، لم تكن خصما، ولم تتدخل في التلاوة، كانت هناك فقط تؤدي عملها بإخلاص وإتقان، وهذا وحده يضرب أساس الأصنام التي بنوها، من الوصاية، والاحتكار، والميكروفون الذي لا يُسمع فيه إلا صوتهم.
غضبوا لأنهم شعروا بأن المساحة التي استحوذوا عليها سنوات بدأت تتسع لغيرهم، ولأن امرأة وقفت في مكان ظنوه محجوزا لهم، ولأن الضوء دخل فجأة غرفة اعتادوا أن يغلقوها بإحكام.
يكرهون النبوغ لأنه يفضح عجزهم، والتنوير لأنه يهدد جماعة لا تعيش إلا في الظلمات، وابتهاج المصريين لأنه يذكّرهم بأن انتماء الناس للوطن أعمق من أي راية صُنعت داخل مكتب الإرشاد.
لذلك، عندما يعلو شيء يشبه عروس النيل الحقيقية، التي تعطي للدين جماله وللعقل حقه، يتحولون إلى آلة تشهير لا تعرف سكوتا، ويزيد إصرارهم على تزييف كل شيء، كي تبقى الديار منطفئة، حتى لا يبدو الفارق الفاضح بين تماثيلهم الصغيرة ودور مصر الكبير.
المدهش في كل ذلك، أن «مهد الحضارات» لم تلتفت إليهم أصلا، لم ترد، لم تبرر، لم ترفع صوتها، قدمت برنامجا، فأحبه الناس، رفعت الكاميرا على تلاوة، فاستقبلها الجمهور بإجلال، وقفت آية بابتسامة هادئة، لا تتحدى أحدا، لكنها تقول للجميع جملة واحدة: «صاحبة أقدم الحضارات في العالم لا تُدار من الظل».
وبين دولة التلاوة، تلك التي صانت حضورها وهيبتها، وبين حُلكة صانعي الأوثان الذين يختنقون كلما قيل لمصر: «أحسنتِ»، تظهر الحقيقة واضحة كالشمس، أن هذا الوطن، حين يقرر أن يمارس دوره التنويري، لا ينتظر إذنا من أحد، ولا يخاف سخط أحد، ولا يساوم على أبسط الحقوق في أن يسمع كلام الله جميلا، أن يرى امرأة محترمة في مكانها الطبيعي، وأن يعرف أن قبلة العلم الشرعي «أرض الأزهر» أكبر من كل محاولات التشويه.
في النهاية يكفي أن برنامجا بسيطا أعاد ترتيب المشهد كله، القرآن عاد إلى مقامه، والمرأة إلى مكانها الطبيعي، وأرضنا الحبيبة في حجمها الحقيقي، والأصنام تحتها، تنكسر وحدها.
تعليقات