المشاركات

عرض المشاركات من 2025

فاروق الدسوقي يكتب: وحش فرانكنشتاين يعيش بيننا

صورة
قد تندهش عند قراءة عنوان هذا المقال، وتعتبره مبالغة وتهويل، لكن الحقيقة التي أؤمن بها أن الوحش الذي تخيلته الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي قبل أكثر من قرنين في روايتها فرانكنشتاين، لم يبق أسير القصة، لأننا نلتقيه في حياتنا بشكل يومي، لا بوجهه المرعب أو جسده المرقع من الجثث، إنما بأجساد ووجوه أخرى أشد خطورة . عندما فتحت العمل الأدبي، لم أقرأ عن حكاية شاب طموح يتلاعب بالعلم ليخلق مسخا من أشلاء الموتى فحسب، لكن وجدت أثرا لطفولة جرحت ولم تشف، وإنسانا حمل في باطنه حزنا قديما ظل ينمو في الخفاء حتى صار شخصا مفترسا . فقبل أن يكون فيكتور فرانكنشتاين، بطل الحدوتة، عالما كبيرا، كان طفلا رحلت أمه، قلب البيت وروحه، فجأة، فانهار شيء عميق داخله، أمرا لم يتمكن العلم ولا الزمن من إصلاحه . ومنذ تلك اللحظة تشكل لديه تساؤل لم يفارقه: لماذا وقف الكافة عاجزين أمام موتها؟ ولماذا لم يستطع والده، الرجل القوي، أن ينقذها؟ حتى تحولت رغبته في المعرفة إلى محاولة للثأر والانتقام من الموت نفسه، والقول للعالم: «أقدر على ما لم يقدر عليه أبي، كان يمكن إنقاذ أمي لو كنت أقوى». كان مشروعه العلمي تجربة يائسة لاستعادة حضن غاب، ...

فاروق الدسوقي يكتب: كل شيء يبدو كأنه حدث من قبل

صورة
يخبرني صديقي دائما إننا نعيش في زمن عشناه من قبل، لا يقول جملته كحكمة، أو ادعاء، إنما كمن يحاول أن يوقظني من نوم لا أعرف متى بدأ. ويضيف بسكون وثقة رجل رأى ما لا يحكى: «جرى فيه ما جرى.. ثم نمنا، وعندما استيقظنا، وجدنا أنفسنا في هذا العالم، إصدار معدل من دنيا نسيناها تماما». أضحك كلما روى ذلك، لكن شيئا في داخلي ينكمش، وكلما حاولت أن أفتح فمي لأعترض، أجد خاطرا يخرسني، كأن عبارة واحدة يمكنها أن تشق شرخا في جدار المنطق، وتسمح لأمر عتيق بالدخول، ك ظلك إن وقف خلفك، لا أمامك،  فالإنسان مهما ادعى الحجة، يعرف في أعماقه أن هناك ما يتجاوز الذكريات،   تلتقطه الروح، ثم يدركه العقل. أحيانا، نعبر شارعا، فنشعر أننا مشينا فيه، نسمع كلمة عابرة، فنهتز كما لو أننا ننصت لجزء ناقص من حديث معاد، نلتقي أشخاصا غرباء، فننجذب إليهم أو ننفر منهم من غير مبرر ظاهر، كأنما الفؤاد  يحتفظ بأرشيف لا يطلع عليه أحد. أفكر في كلامه وأنا أصعد إلى عيادة الطبيب في الطابق التاسع، تلك التي يصر «الأسانسير» أن يتعطل عندها ، حتى بدا لي أنه جزء من سيناريو محفوظ. تتوقف أبوابه بالطريقة و في اللحظة نفسها، فأضطر بعدها للنزو...

فاروق الدسوقي يكتب: آية بين نور دولة التلاوة وظلام الإخوان

صورة
أتعجب - ولا أملّ من العجب - من قدرة البعض على كراهية النور، ليس لأنهم يخافونه، لكن لأن حضوره يعري عتمتهم، فكلما أضاءت مصر زاوية، هرعوا من مخابئهم، كأن الإنجاز صفعة لا يحتملون صوتها. أندهش من أولئك الذين، كلما ارتفع صوت الوطن وامتلأت الوجوه بالسرور، خرجوا من ثقوب الظلام ليطفئوا وهج المناسبة، لا يحتملون أن يحتفل الناس بنجاح، أو أن تلمع «درة الشرق» في لحظة انتصار، كأن الفرح عندهم خطيئة، وأم الدنيا خصم يجب هدمه، وأي ابتسامة على وجه مصري تهديد يزلزل عروش أفكارهم. كل تفوق يتحول في أعينهم إلى مؤامرة، وكل احتفال يُعاد تفسيره على أنه فتنة، وكأنهم في حرب أبدية مع فكرة أن تكون الدولة أهم من الجماعة، وأسمى من المرشد، وأكبر من الشعارات. الليلة لم يكن المشهد أكثر من برنامج تلاوة، قدمته وزارة الأوقاف بالتعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، أصوات شابة تقرأ كلام الله كما يليق بكتاب أنزل هدى ورحمة، مجرد احتفاء خالص، صوت نقي، مقامات رصينة، وتاريخ يعرف كيف يرفع «الفرقان» بلا توظيف ولا ضجيج.   لم تكن الأمسية مجرد مسابقة، إنما كانت استدعاء لمدرسة كاملة لم تُنجب أصواتا بقدر ما أنجبت طريقة في الشعور...

فاروق الدسوقي يكتب: إلى ابني.. وصايا من حكمة يعقوب وعزيمة صلاح

صورة
بعد سنوات طويلة من مراقبة هذا العالم المتقلب، لم أجد ما هو أصدق وأعمق وأقدر على لمس القلب من ذلك الحوار الذي جمع بين رجلين لم يجمعهما العمر ولا الطريق، لكن جمعتهما الحقيقة نفسها: السير مجدي يعقوب والفرعون المصري محمد صلاح. حين فكرت أن أرسل لك درسا واحدا تحمله معك في رحلتك، لم أعثر على أجمل من هذا اللقاء ليكون رسالة أب يعرف أن الكلمات وحدها لا تكفي، لكن الحكايات تفعل. ليس لأنهما مشهوران، ولا لأن الناس تحب صورتيهما، لكن لأنهما كشفا ما يخفونه: كيف يصبح الإنسان نفسه، بلا خداع. تمنحنا الحياة مشاهد صغيرة، لكنها تفتح أبوابا واسعة في الروح، ليست معجزات، لكنها كاليد التي تلمس كتفك في اللحظة التي توشك فيها على السقوط. يا بُني، لا تدع العالم - بكل ضجيجه وأقنعته وادعاءاته - يروض أحلامك، شاهد وأنصت جيدا لهذا الاجتماع، صلاح، بملامحه التي ما زالت تحمل شيئا من طفل نجريج الذي لم يترك الحلم ينطفئ في عينيه، ويعقوب، بوقار الحكيم الذي رأى من القلوب ما يكفي ليدرك أن الإنسان لا يعرف من ملامحه، وإنما بما ينهض به كلما سقط. لم يتكلم أحدهما كرمز، ولا الآخر كأسطورة، كانا مجرد إنسانين يقولان الحقيقة التي يخا...

فاروق الدسوقي يكتب: «كارثة طبيعية».. كيف أعاد سلام وأبو رية اكتشاف نفسيهما؟

صورة
في عرض يعيد تعريف الدراما الاجتماعية، يقدم «كارثة طبيعية» على  منصة  Watch It تجربة إنسانية دقيقة لا تشبه الأعمال التلفزيونية المعتادة، فالعمل ينطلق من لحظة صادمة، همسة قدر، خبر حمل مفاجئ بخمسة توائم، كأن الحياة قررت أن تختبر هشاشة بيت مصري بسيط، وأن تضع على طاولة أسرة صغيرة وزنا يكفي لتصدعها. يقدم الفنان محمد سلام في المسلسل واحدا من أهم وأنقى أدواره، يبتعد عن الكوميديا الخفيفة ليقترب من منطقة إنسانية أكثر عمقا، رجل يحاول أن يبدو ثابتا بينما الأرض تتحرك تحت قدميه. يدخل «سلام» هذه الحكاية لا كممثل، وإنما كرجل يشبه ملايين الرجال الذين يحاولون أن يبدوا أقوياء بينما أصوات ارتطام الأسئلة تتردد في صدورهم. ضحكة مألوفة، لكنها هذه المرة ليست خفة دم، بل قناع هش يختبئ تحته خوف أب يكتشف أن المسؤولية أكبر من حلمه، وأثقل من جيبه. يعتمد أداؤه على الارتباك الصادق عند مواجهة المسؤولية، ارتعاش صوته وهو يخشى أن يكون غير قادر على التحمل، الضحك الذي يخفي القلق، واللغة الجسدية التي تنقل خوفا لا يقال لكنه يرى بسهولة.  كلها تفاصيل تشبه حياة أي أب يكتشف أن الحب أكبر من خوفه، وأن الحياة أوسع من ق...

فاروق الدسوقي يكتب: كيف تنجو مصر كل مرة؟

صورة
بعض العبارات لا تفهم في لحظتها، تحتاج زمنا وامتحانا لتكشف معناها الحقيقي، وربما الآن فقط، بعد ما مرت به مصر في السنوات الأخيرة، بدأ كثير من المصريين يدركون لماذا كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يكرر الجملة نفسها في كل مناسبة: «نحن نتعامل بشرف». الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي في عالم تتغير فيه المواقف بسرعة، وتدار فيه الصفقات من خلف الأبواب المغلقة، ويصبح المكسب فيه أهم من المبدأ، بدت هذه الجملة غريبة حين قيلت، كأنها لا تنتمي إلى لغة السياسة المعروفة، لم يقلها الرئيس السيسي ليجمل صورة، أو ليصنع خطابا، لكنه قالها لأنه يعرف أن سقوط الدول يبدأ من اللحظة التي تبيع فيها قيمها لتربح معركة قصيرة. قالها بوضوح لا يحتاج إلى شرح: «لازم تكونوا واثقين في الله، وفي أنفسكم، لأننا لا نظلم ولا نفتري ولا نتآمر ولا نخون.. نتعامل بشرف في زمن عز فيه الشرف، فلازم النجاح والنصر يكون حليفنا في كل القضايا». هذه الكلمات لم تكن شعارات، كانت يقينا، وطريقة تفكير، وخريطة طريق لدولة تريد أن تبقى واقفة دون أن تتخلى عن نفسها في الطريق. من اعتاد أن ينتصر بالخديعة لا يفهم كيف يمكن لأحد أن ينتصر بالوضوح، ومن عاش على الفوضى لا ي...

فاروق الدسوقي يكتب: حين تنفس الحجر.. مصر تبني مجدها في المتحف الكبير

صورة
ماذا لو لم تُشرِع مصر يومًا هذا الصرح العظيم؟ وبقيت الصناديق موصدة في ظلمة النسيان، يحرسها الغبار، وتغفو داخلها المنحوتات كأحلامٍ حجرية تنتظر من يوقظها إلى الضوء. تخيل أن الحجارة التي نُحِتت لتتكلم، صارت تبتلع صمتها، وأن الوجوه التي خُلقت لتُبصر، حُكم عليها بالاختفاء الأبدي، وأن مصر لم ترفع الغطاء عن ماضيها، وتركت حضارتها في الظل، كأنها اختارت أن تمضي بلا ذاكرة، وتتوارى عن وجهها الأصدق والأقدم. سيكبر الأطفال وهم لا يعرفون من هي نفرتيتي، ولا لماذا كان خوفو يحدّق في السماء منذ آلاف السنين. سيتحوّل التاريخ إلى أسطورة بلا يقين، والهوية إلى حكاية تُروى بلسان غريب. أتدرك كيف يبدو وطن نسي جذوره؟ وكيف يعيش شعب فقد ملامحه الأولى، تلك التي صاغها الطين والنيل والخلود؟ تكمن عبقريتنا نحن المصريين في أننا اصطففنا إلى جانب الذاكرة الجمعية، وأعدنا فتح الصناديق أخيرًا، فتدفّق الضوء على الوجوه المنحوتة التي انتظرت آلاف السنين، فأفاضت الحجارة أنفاسها الأولى، واستيقظت الملامح القديمة من سباتها الطويل. إن افتتاح المتحف لا يُختزَل في احتفال أثري، بل هو فعل وعيٍ يعلن أننا متمسكون بجذورنا وهويتنا. فذلك البناء...

فاروق الدسوقي يكتب: من أجل مشروع وطني لتوثيق حرب أكتوبر

صورة
كل عام، في السادس من أكتوبر، تتردد الأغاني نفسها، تعاد المشاهد ذاتها، تستدعى وجوه الأبطال من بين الأرشيف، كما لو كنا نستحضر ذكرى بعيدة لا نعيشها . نعم، نحتفل بالعبور العظيم، لكن شيئا ما يتسلل من بين أيدينا في كل مرة، شيء لا يرى، لكنه جوهر الحكاية كلها: المعنى .   فالاحتفال وحده لا يكفي، لأنه ليس تاريخا عابرا في التقويم، ولا حدثا في نشرة الأخبار، وإنما معرفة يجب أن تورث، وسرد يجب أن يذكر كما كان، لا كما اختزلته الصور والأغاني والأفلام . الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي إن مرور الزمن لا يمحو الأحداث فقط، لكن تبهت دلالتها في الوجدان، حتى تصبح الحرب في عيون الأجيال الجديدة مجرد أغنية حماسية أو مشهد في فيلم قديم . ومع هذا التلاشي البطيء للمغزى، يتجلى نداء الكاتب الصحفي مصطفى عمار، رئيس تحرير جريدة الوطن، كصرخة في زمن السرعة والسهو: «نحتاج إلى مشروع إعلامي ضخم لجمع وثائق حرب أكتوبر، لتتاح للأجيال المقبلة، لا أن نكتفي بإحياء الذكرى». قد تبدو الدعوة بسيطة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تمس ما نفتقده حقا: أن نمتلك سرد سيرتنا بأيدينا نحن المصريين . فالمبادرة التي يقترحها «عمار» ليست موقعا إلكترونيا أ...

فاروق الدسوقي يكتب: متى يتوقف الأب عن القتال؟

صورة
  كانت السماء رمادية، كأنها تتهيأ للبكاء. الضوء يزحف على الأرض بحذر، والريح تمر بين أوراق الشجر بخفة من يعرف أن شيئا مقدسا يحدث هناك. في باحة بيتنا القديم، الذي تكسوه ملامح الصبر، يجلس أبي على كرسي خشبي مائل شهد كل فصولنا معا: ضحكنا، خلافاتنا، وصمته الطويل. كان المقعد يئن تحت جسده، كأنه تعب من الدور نفسه، من لعبة الحياة التي تنتهي دائما بتبديل الوجوه. أمامه فنجان شاي بارد، لم يشرب منه إلا رشفة واحدة، يداه ساكنتان فوق ركبتيه، لكن داخله يعج بحركة لا تُرى، لم يقل شيئا، لأن الصمت أحيانا أبلغ من الكلام. حوله سكون كثيف يشبه الصلاة، وعلى الطاولة أمامه ورقة مطوية بعناية، وقلم انكسر رأسه، ونسمة تعبر كأنها تفتش في الذاكرة. أما أنا، فأقف في الطرف الآخر من المشهد، أراقبه عن بعد، وجهه مألوف وغريب في ذات الوقت، كأن الدهر عبث في ملامحنا وترك بيننا مرآة نصف مكسورة. اقتربت منه بخطى مترددة، لم أسمع لصدى أقدامي أثرا، حتى قلبي كان ينبض بهدوء غريب، يخاف أن يوقظ شيئا نام منذ أمد طويل. رفع نظره نحوي، وقال بصوت خافت: «هل تعرف متى يتوقف الأب عن القتال؟». لم أجب. نظر بعيدا، وتابع بنبرة متعبة: «حين يصدق أن أ...

فاروق الدسوقي يكتب: على الأسفلت.. عندما خذلنا «ابن الحلال»

صورة
تنويه: «هذا النص مستلهم من أحداث حقيقية، وأي تطابق مع الحياة مقصود تماما، فالواقع أحيانا يكتب القصص أفضل من الخيال». أحيانا لا تأتي دروس الحياة في قاعات الدراسة، وإنما على الأسفلت، في لحظة عطل بسيط قد يكشف معدن أنفسنا ومن حولنا. لم تكن العبرة عن السرقة ولا الثقة، لكن عن النقاء الذي يصر على البقاء رغم كل ما يحدث لنا، وفي كل مسار طويل، يأتي وقت تختبرنا فيه الحياة دون إنذار، امتحان صغير لشيء أكبر بكثير: إنسانيتنا. كم مرة صادف الإنسان غريبا يمد له يده؟ وكم مرة خذله من حاول أن يبدو ابن حلال؟ اليقين في هذا الزمن يشبه السير حافيا فوق الزجاج، مؤلم، لكنه الدرب الوحيد للحفاظ على ما تبقى من نقاء الفؤاد. وهذا ما حدث.. ذات يوم على مشارف المعادي. كان الطريق يمتد أمامه طويلا فوق أرض ساخنة تحت شمس حارقة، والمحرك يئن بتعب واضح كأنه يوشك أن يتوقف، ثم خذله بالفعل وتعطل. نزل من السيارة، والحرارة تخنق الهواء، ورائحة الحديد الساخن تملأ أنفه، رفع الغطاء فاكتشف العطل البسيط: نقص في ماء الريداتير. في دقائق، توقف سائق نقل، ثم آخر، وجاء ثالث يحمل زجاجة مياه كأنها نجدة من السماء، قال أحدهم بابتسامة مطمئن...

فاروق الدسوقي يكتب: فبصرُك اليوم حديد.. محاكمة خاصة

صورة
هناك أوقات لا تشبه سائر الأيام، ينكسر فيها الزمن، ويتوقف الكون عن الدوران فجأة، فنجد أنفسنا وجهاً لوجه مع حقيقتنا المجردة، أمام مرآة لا ترحم، تدفعنا إلى مواجهة لا مفر منها. بالأمس، وقفنا جميعا حول نعش صديقنا الراحل أحمد، لم يكن يعرفنا كما نعرف أنفسنا، لكنه صار كاشفا لكل ذنوبنا، ما أجلناه، وما سرقناه من أعمارنا ومن حياة الآخرين. كانت السماء رمادية، والبرد يلتف حولنا مثل خيط رقيق من المعصية، والصمت ثقيل، لكنه ليس أقوى من أصواتنا الداخلية التي فضحت ما نخفيه عن الجميع. حملنا الصندوق معا، وفي اللحظة ذاتها حمل كل واحد منا محاكمته الخاصة، لم يكن هناك قضاة ولا شهود، فقط ضمائرنا العارية وحدها. اقترب محمد من التابوت، والارتجاف يفضح قلبه، فهو الخائن الذي لم يغفر لنفسه غدره لزوجته منى، استحضر كل وعد ضاع، وكل دمعة تركها على وجنتيها، وكل ليلة كان يعود متأخرا ليخفي سره عنها. رأى في ذهنه وجه ابنته الصغيرة ليلى، تنظر إليه ببراءة وهو يحتضن في داخله خيانة موجعة، وقف أمام سرير الميت يواجه مرآته، لا مهرب، ولا عذر، ولا غفران: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». وبالقرب منه كان خالد ي...

فاروق الدسوقي يكتب: أخطر من المخدرات.. أنا لست عبدًا لأفكاري

صورة
قبل أعوام، دخلتُ عيادته كمن يجرّ وراءه حقيبةً مثقلةً بأيامٍ مشحونة، حملاً لا يراه أحد، لكنه يسحبني إلى الأرض كحجرٍ مربوطٍ في قدمي. جلستُ في غرفة الانتظار أحدّق في ساعةٍ معلّقةٍ على الجدار، تتحرك عقاربها ببطء، كأنها تشاركني عبءَ روحي. نادوا اسمي، فاتجهتُ إلى حجرة صغيرةٍ يملؤها نورٌ خافت، كان هناك مكتبٌ تتناثر فوقه أوراق، ومجسّمٌ صغيرٌ لدماغٍ بشري، وكرسيّان متقابلان، أحدهما لي، والآخر لرجلٍ بدا وكأنه يقرأ وجهي أكثر مما يطالع ملفي. رفع الطبيب عينيه عن حافظة بياناتي، نظر إليّ مليًّا، ثم خاطبني بنبرةٍ هادئةٍ لكنها لا تحتمل الجدال: «أنتَ مدمن.. وتعاني من اكتئابٍ حاد». اخترقتني كلماته كصفعة، فارتبكتُ وأجبتُ بسرعة: «لكني تركتُ الخمر منذ سنوات، وهجرتُ المخدرات منذ عقد». ابتسم ابتسامةً قصيرة، كمن يملك الحقيقة منذ زمن، وقال: «أنتَ أسير التعلّق بالأماكن التي رحلتَ وما زلتَ تسكنها، بالوجوه التي مضت ولا تتركها، بالذكريات التي انتهت ولا تكفّ عن إعادة شريطها بلا نهاية». خرجتُ من عنده أجرّ خطواتي المكبّلة، فوجدتُ صديقي ينتظرني على الرصيف، كان يعرف أنني أكره دخول مثل هذه الأماكن وحدي. أشعل سيجارته وسأل...

فاروق الدسوقي يكتب: مصر تعفو.. فهل يعتذر علاء عبد الفتاح؟

صورة
في كل صباح خلال مظاهرات 25 يناير، وما تلاها من أحداث صعبة مشابهة في مصر، كانت العائلات تتابع الأخبار، على أمل أن يعود أبناؤهم سالمين، وأن يكون رجال الشرطة والجيش في أمان. ثم تأتي كلمات على مواقع التواصل، تتحول كالرصاص في البيوت، وتزرع الخوف في القلوب. هكذا كانت منشورات علاء عبد الفتاح بالنسبة لنا، ليست مجرد كلمات على الهاتف، بل صرخات تهدد الطمأنينة وتطرح سؤالًا صعبًا: هل يمكن أن نمارس الحرية إذا كانت تهدد حياة الأبرياء؟ الكاتب الصحفي فاروق الدسوقي كانت أمي تجلس على أريكتها القديمة، الهاتف بين يديها، تتابع الأخبار كعادتها كل يوم، حتى وقعت عيناها فجأة على منشور كتبه علاء عبد الفتاح على مواقع التواصل، يحرض فيه ضد رجال الشرطة والجيش.  شعرت وكأن الكلمات تخترق قلبها، فهي لم تكن مجرد حروف، بل تهديد مباشر لنا جميعًا. ابن خالي، ضابط الشرطة، يخرج كل صباح مرتديًا بدلته، مودعًا أهله بابتسامة، بينما تظل قلوبنا مليئة بالقلق والدعاء.  كنت أرى الخوف في ملامح أمي مع كل تدوينة أو فيديو جديد لعلاء، حتى صار هذا الخوف عادة يومية، وبدأت تطلب مني الاتصال بأسامة للاطمئنان عليه قبل أن ينام. ولم تشعر أ...