فاروق الدسوقي يكتب: كل شيء يبدو كأنه حدث من قبل
يخبرني صديقي دائما إننا نعيش في زمن عشناه من قبل، لا يقول جملته كحكمة، أو ادعاء، إنما كمن يحاول أن يوقظني من نوم لا أعرف متى بدأ.
ويضيف بسكون وثقة رجل رأى ما لا يحكى: «جرى فيه ما جرى.. ثم نمنا، وعندما استيقظنا، وجدنا أنفسنا في هذا العالم، إصدار معدل من دنيا نسيناها تماما».
أضحك كلما روى ذلك، لكن شيئا في داخلي ينكمش، وكلما حاولت أن أفتح فمي لأعترض، أجد خاطرا يخرسني، كأن عبارة واحدة يمكنها أن تشق شرخا في جدار المنطق، وتسمح لأمر عتيق بالدخول، كظلك إن وقف خلفك، لا أمامك، فالإنسان مهما ادعى الحجة، يعرف في أعماقه أن هناك ما يتجاوز الذكريات، تلتقطه الروح، ثم يدركه العقل.
أحيانا، نعبر شارعا، فنشعر أننا مشينا فيه، نسمع كلمة عابرة، فنهتز كما لو أننا ننصت لجزء ناقص من حديث معاد، نلتقي أشخاصا غرباء، فننجذب إليهم أو ننفر منهم من غير مبرر ظاهر، كأنما الفؤاد يحتفظ بأرشيف لا يطلع عليه أحد.
أفكر في كلامه وأنا أصعد إلى عيادة الطبيب في الطابق التاسع، تلك التي يصر «الأسانسير» أن يتعطل عندها، حتى بدا لي أنه جزء من سيناريو محفوظ.
تتوقف أبوابه بالطريقة وفي اللحظة نفسها، فأضطر بعدها للنزول على درجات السلم متآكلة الحواف، مثل كل السلالم في العمارات التقليدية في تلك المنطقة.
أتحسس خطواتي خشية نعومتها، أخاف أن تنزلق قدمي، حتى خيل إلي أن جسدي نفسه يتذكر سقطة لم تتم لي هنا، لكنها وقعت في عهد ما.
أجدني أبوح: يا ليت المصعد لا يتعثر، ربما لن أعود الأسبوع القادم، لكنني أرجع، وتقاد قدمي إلى المكان الذي مرت به آنفا، حتى لو أنكر عقلي ذلك.
صديقي لديه تفسير جاهز، يردده بثقة شاعر لا يحتاج إلى دليل: «نحن لسنا أبناء لحظة واحدة، إنما امتداد لنسخ ماضية منا، وأن العمر الحقيقي ليس ما نحياه، بل ما نكرره ولا ندري».
أستمع له، أحرك أفكاري بين ما يروي وما أعيشه، وأتساءل: «كيف يمكن للأيام أن تكرر ذاتها بهذه الطريقة؟».
يؤمن أن أرواحنا تشبه نهرا قديما، يتغير شكله، لكن ماؤه يحتفظ بسجل الصخور التي مر عليها، وأن حياتنا الحالية ليست إلا استكمالا لقصة كتبت، وفقدت صفحاتها، فنحاول إعادة كتابتها، بنفس الأخطاء، والحنين، والوجوه، لكن بتسلسل عصري.
وكلما واجهتنا لحظة «ديجافو»، تلك الرجفة التي تؤكد: لقد كنت هنا، فإنها ليست وهما، إنما قصاصة نجت من عملية حذف كبرى.
أفكر طويلا، هل نحن حقا نكرر الدهر؟
أيمكن للماضي أن يسبقنا إلى الحاضر؟
هل نخوض حياة مستعملة، نعيد تشغيلها بذاكرة جديدة؟
أم أن المسألة أبسط من كل هذا، فمن المحتمل أن الإنسان لا ينسى نهائيا، وأن الروح لا تعرف معنى البداية من الأصل، تمشي من زمان إلى آخر، حاملة معها ما يمكن حمله، ميل معين للخير، حساسية مفرطة تجاه الظلم، خوف من فقدان شخص لم نلتق به بعد، حنين بلا سبب، كراهية لوجه لم يخطئ في حقنا قط، دمعة جاهزة لواقعة لم نمر بها، وابتسامة تلقائية عند رؤية من يعكس ملامح من أحببناه في وقت منسي.
وينشأ السؤال الأكبر، أليس المشاعر تسبق التجربة؟ أم التجربة هي التي تعود لتطالب بحقها في الظهور ثانية؟
الغريب والمطمئن أيضا، أن حياتنا، كما نختبرها الآن، تبدو كمحاولة أخرى لتصحيح إحساس سابق، وكأن الله منحنا فرصة أن نكون أفضل مما كنا، أن نقول ما لم نقله، أن ننتقي ما لم نجرؤ أن نختاره.
نشعر بقلق حين نعاود خطأ نعرف أنه سوء تصرف، مع أننا نظريا نجربه لأول مرة، نخاف من أشخاص معينين، لأنهم كانوا سبب وجع قديم، ونحب آخرين بسرعة غير مفهومة، لأن أرواحنا تعرفهم.
وسواء كنا نسترجع الفترة أو أنفسنا، نسكن نسخة محدثة أو مستهلكة، فالحقيقة أن هناك شيئا أعمق من الصدى يقودنا كبوصلة تشير إلى ما كناه، وما يجب أن نكونه.
لعل هذا هو سر الوجود كله، كوننا لا نبدأ من الصفر أبدا، ولا نصل إلى النهاية قط، لكننا نتحرك بينهما محملين بما نسيناه، ومندهشين مما نتذكره دون أن نفهم.
وعسانا نمضي الآن رحلة ثالثة أو عاشرة، نستأنف فيها نفس السؤال الذي خرج من فم إنسان عاش قبلنا بقرون: «لماذا يبدو كل شيء كأنه حدث في الماضي؟ ولماذا يصر القلب على تذكر ما نسيناه؟».

تعليقات